رأي

الخطاء البنيوي للدكتور “قرنق”.!

جوردن وليم ميد

لم يكن خطأ الدكتور : “جون قرنق” خطأ إرادة بل خطأ بنية، فالمشروع الذي حمله مشروع “السودان الجديد” كان يتطلّب أدوات تتجاوز التكوينات الأولية للمجتمع السوداني، بينما الواقع الذي انطلقت منه الحركة كان يضغط عليها لتعيد إنتاج ذات البُنى التي أرادت تجاوزها هنا يظهر التناقض الجوهري الذي حفر لاحقاً كل مسارات الانقسام.
وهنا المنهج لا يتعامل مع الحركة الشعبية كجسم معلق في الهواء، بل كحصيلة شروطها الاجتماعية المناطق التي نهضت فيها الحركة لم تكن رقعة خالية، بل كانت بنى إثنية كثيفة، تمتلك تاريخاً من التشظي السياسي وضعف تكوين الدولة، وبنية اقتصادية تقليدية لم تسمح بخلق طبقة اجتماعية قادرة على حمل مشروع قومي شامل وبهذا المعنى، لم يكن “قرنق” حراً في اختيار أدواته لكنه لم يكن مضطراً أيضاً للاستسلام لها.
اعتماد الحركة في طور تأسيسها على الكثافات الثلاث الدينكا، النوير، والشلك، لم يكن مجرّد خيار تنظيمي، بل كان إعادة إنتاج لبنية السلطة داخل المجتمع الجنوبي نفسه فبدلاً من تحويل هذه الكتل إلى قاعدة لوعي سياسي جديد، ظلت الحركة تستند إلى “رموزها” لا إلى “طبقاتها”، وإلى الولاءات الأولية لا إلى المصالح التاريخية وهنا تظهر المفارقة الحركة حملت مشروع دولة حديثة، لكنها بُنيت بأدوات ما قبل الدولة.
ولم يكن وجود “مشار ولام أكول” وغيرهما داخل هيكلة الحركة مجرّد تعبير عن التنوع بل كان تمثيلاً لتوازنات إثنية لم تضبط بمنهج سياسي صارم فحين يكون التنظيم مُجبراً على مراعاة “القبيلة” بوصفها وحدة سياسية لا تتحول القيادة إلى مركز بل إلى موزع توازنات، ومع غياب طبقة اجتماعية منتجة للوعي القومي، يصبح الانشقاق امتداداً طبيعياً لطريقة البناء نفسها.
أمّا المناطق الأخرى مثل جبال النوبة والنيل الأزرق فقد دخلت الحركة منها بمداخل مختلفة، لا على أساس بناء وعي قومي متماسك، بل عبر تحالفات جزئية فرضتها ظروف الحرب وجغرافيا التهميش وحين ننظر إلى غرب السودان، نجد أن الحركة لم تستطع النفاذ إلى بنيته لأن الإسلام الاجتماعي هناك كان يشكّل الوعي الجمعي بصورة أقوى من أن تتجاوزها رؤية سياسية ناشئة لم يُخطئ قرنق هنا، بل اصطدم بحدود البنية التاريخية نفسها.
ولذلك فإن الجذر الحقيقي لانقسامات الحركة لاحقاً لم يكن صراعاً على السلطة في حد ذاته، بل كان غياباً لبنية اجتماعية حديثة يمكن أن يشكّل التنظيم على أساسها نواة سياسية تتجاوز القبلية وما لم تتجاوزه الحركة في الجنوب من إعادة إنتاج للرموز العشائرية تحول بعد الانفصال إلى مركز أزمة الدولة نفسها.
إن مشروع “قرنق” في جوهره كان يتجاوز الجنوب نحو السودان كله، لكن أدواته كانت أسيرة الجنوب السوداني وهذا التناقض بين “الرؤية” و”الوسيلة” هو ما يفسر بوضوح لماذا ظل السودان الجديد مشروعاً متخيلاً فوق أرض لم تُنجز تحولها الاجتماعي بعد فالفكرة كانت تقدّمية، ولكن حاملها الاجتماعي ظلّ تقليدياً.
وبمنطق التحليل يمكن القول إن الحركة الشعبية حاولت القفز فوق شروط الواقع دون أن تعيد تشكيله وحين تفشل القوة الاجتماعية في إعادة بناء واقعها، يتحول مشروعها إلى طموح أخلاقي كما نشاهد الان أكثر منه فعلاً تاريخياً وهذا ما حدث بالضبط الرؤية كانت أكبر من حاملها الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى