عبداللطيف البوني
نعيد الإشارة للكتاب الوثائقي الخطير عن مدينة الخرطوم 1850… أي في منتصف العهد التركي لكاتبه محمد سيد أحمد… وأظنه كان رسالة دكتوراة وُصفت الخرطوم فيه بأنها كانت مدينة حديثة تكاد تكون قطعة أوروبية خارج أوروبا…. من حيث المعمار والشوارع والملاهي والحدائق الغناء والذي منه… لكن جاءت المهدية فخربتها وجعلتها في خبر كان ليس جهلاً مؤسساً على عقل رعوي فقط … إنما انطلاقا من منهج اختطه محمد أحمد المهدي… فحواه أنه جاء لخراب الدنيا وعمار الآخرة….فأنشأ مدينة أم درمان لتكون نقيضاً للخرطوم في كل شيء… مباني ضيقة متواضعة… زقاقات… ونفاجات… حتى ملابس الناس يجب أن تكون مرقعة… ليتساوى الغني والفقير في الملبس والمسكن والمأكل… وكما قال الدكتور جعفر ميرغني أصبحت أم درمان هي المرجع الجمالي لكل أهل السودان … وأصبح مزاجها مفروضا على كل أهل السودان حتى بعد نهاية المهدية… وربما إلى يوم الناس هذا…حتى اغنيتها الرتيبة (حقيبة الفن) أصبحت معيارا للأغنية السودانية… وكذلك هلالها ومريخها وهذة قصة أخرى….
إلا قل لي بربك في زمن أصبحت فيه الشواطئ البحرية و النهرية مقياساً لعظمة المدن وثرائها وجمالها…. والخرطوم بها ستة شواطئ يبلغ طولها حوالي 300 كيلومتر (ثلاثمائة كيلو متر) ليس فيها ولا كيلو متر واحد سياحي.. الأنهار والأمطار والمياه الجوفية القريبة تعطي ولاية الخرطوم الحالية قرابة المليون فدان زراعي… باختصار يمكن أن تكون الخرطوم مدينة خضراء سياحية على مستوى عالمي… ومدينة صناعية.. وولاية زراعية… فما كانت لا هذه ولا تلك، إنها المحقة السودانية وإن شئت قل الأم درمانية… المهدية سامحها الله هبطت حتى بالمزاج العام… ولكن هذا لايقلل من قيمتها كثورة ولا من المهدي كقائد كاريزمي… وقد لخص شاعرنا الفذ صلاح أحمد إبراهيم المحقة السودانية في قوله:
كل خيرات الأرض والنيل هنالك
ولكن مع ذلك
مع ذلك
فالنبحث جميعاً عن ذلك الذي أشار إليه صلاح.. والذي جعل الخرطوم عاصمة القبح…. كان عمنا الطيب إذا سمع شخصاً يقول أنا من أهل ذلك يقول له والله انت ذلك الكبير..
الآن جاءت هذة الحرب اللعينة وكانت أشد على الخرطوم من المهدية… فليس أمامنا إلا العودة لبداية الحكم الثنائي الذي عَمّر الخرطوم وجعل منها مدينة جميلة… فحتى ساعة خروجهم من السودان في يناير 1956… كانت الخرطوم مدينة جميلة… تكاد تكون بعد القاهرة في العالم العربي .. نعم ليست بعراقة دمشق وبغداد ولكنها معاصرة… وأفريقياً تكاد تكون بعد جوهانسبيرج تلك المدينة التي كانت عنصرية بغيضة.. َوكانت الخرطوم أجمل بكثير من لاغوس وأكرا وغيرها من المدن الأفريقية… المهم كانت للخرطوم نكهتها الخاصة فليست مدينة شرق أوسطية… وليست مدينة أفريقية..هذا عندما غادرها الانجليز… رضي الله عنهم كما يقول صديقنا بروف عثمان البدري…
بدإ العد التنازلي للخرطوم مع بداية الحكم الوطني واستمر في تصاعد إلى أن وصلت قمة شحمها الذي كان ورما والذي كرسنا له المقال السابق.. وكان ذلك ناتجاً للسياسات التي طبقتها الأنظمة الوطنية المتعاقبة… وانعكس سوء هذه السياسات علي الخرطوم….
أها نأتي لليوم العلينا دا بعد أن اتفرتقت الخرطوم طوبة طوبة من الكدرو إلى سوبا ومن الحاج يوسف إلى جبل أولياء فما العمل؟ من المؤكد أنه لابد من إعادة تعميرها ليس لأنها سرة السودان بل لأنها سرة كل أفريقيا… فمطارها يمكن أن يكون أهم مطار في أفريقيا بحكم موقعه الجغرافي فقط… (مطار هب) كما يقول المصطلح… فالذي أخشاه هو أن نسمع عبارة (سيرتها الأولى)
فالخرطوم لم تكن لها سيرة يمكن الرجوع إليها… فإصلا لم تأخذ حقها من الجمال… رغم إشراقات التركية السابقة والحكم الثنائي فيها… باختصار الخرطوم محتاجة لـ(سي جديد)… فإذا أقررنا هذا يمكن أن يكون فيه مدخلاً لإصلاح كافة السياسات الداخلية…. لأن الخرطوم عبثت بها مجمل السياسات الداخلية..
كل المختصين في علوم الحضر والبيئة والاقتصاد والفنون والسياحة و… و… جاء يومهم ناس أخونا الدكتور مهندس محمد علي عبد الحليم وآخرون كثر لا نعرفهم ولكن يعرفهم أهل التخصص.. يلا شدو حيلكم وقولوا كلمتكم للرأي العام ليتبناها وانسوا فلان وعلان…
فيما يلينا فإننا ندعو لنظام حكم فدرالي محلي وليس فدرالي ولائي… الفدرالية التي كانت مطبقة عندنا لا تعدو إلا أن تكون تشويها وانحطاطا بالفكرة… كل الإيرادات ممركزة في الخرطوم.. ضريبة الصادر والوارد ورسوم الإنتاج على الصناعات الكبيرة والجمارك كلها مركزية… فماذا تركت للاقاليم؟ العشور والقطعان وقطع الطريق؟ أما الطامة الكبري فهو اعطاء حق التشريعات المالية للبرلمانات الولائية ومجالس المعتمديات… فأصبحت الايصالات المالية في الطرق القومية تحسب بالعشرات… فتحطمت التجارة الداخلية… وتراجع الإنتاج… وانزوى الريف وتعملقت الخرطوم… لان الأموال كلها تمركزت فيها… ثم جاء البترول فزاد شحمها ورما… لقد اغتنت الخرطوم بما افتقر به الريف… أما ولاة الولايات والمعتمدين فأصبح دورهم سياسي فقط.. َلكي يرمي لهم المركز حفنة قروش… لابد من إلغاء المعتمديات على الأقل في الفترة القادمة والعودة الي مجالس المناطق التي يقف على رأسها الضباط الاداريون… لابد من إعادة النظر في النظام الولائي لأنه لم يقصر الظل الإداري بل قلص الطريق الجبائي… لابد من احتكار التشريعات المالية للبرلمان القومي أو من يقوم مقامه… لابد من الرجوع للحكم المحلي وبالتصور الذي وضعه العالم الفذ جعفر بخيت… الذي يرى أن المحلية يجب أن يكون لها نصيب في كل ما يدفعه منسوبوها…. فمثلا لو كنت من محلية أم كدادة أو أم برمبيطة أو أم صيمية فدفعت رسوم استخراج رخصة أو استخراج جواز سفر… يجب أن يكون لمحليتك نصيب معلوم… الحكم المحلي هو الذي يوفر الخدمات للريف ويجعل أهله مستغنين عن العواصم المحلية ناهيك عن الخرطوم… وللحديث بقية إن شاء الله..
