أكدت الولايات المتحدة الأمريكية بصورة جلية أن السودان يمثل أحد المرتكزات الأساسية في سياساتها الخارجية في مجال التنافس الجيوبوليتكي بينها والاتحاد الروسي والصين في أفريقيا والشرق الأوسط مناطقياً، وفي السير نحو ترسيخ ما تعتقده محاور أساسية يقوم عليها رفاهها وبقاؤها مبدئياً، وهي أمور استتبعت إعادة تفعيل سياساتها وتحالفاتها ضمن سياساتها الخارجية في المنطقتين.
فقد قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين في 30 أكتوبر المنصرم، وفي مخاطبة داخلية في معهد الشؤون الخارجية بوزارة الخارجية الأمريكية حول السياسات التي سعى لتطبيقها تعزيزاً لمكانة بلاده الخارجية، وتثبيطاً لمنافسيها، أنه ومع استمرار المنافسة الجيوسياسية لتشكيل حقبة جديدة في الشؤون الدولية، تظل التحديات القديمة قائمة، كالصراعات والإرهاب وغياب الاستقرار السياسي، بما يعني تهديداً لانتفاع الولايات المتحدة من الموارد والفوائد الكامنة في المناطق التي تريد وتسعى لتمتين وجودها ونفوذها فيها.
ورغم أن الوزير الأمريكي كان يتحدث عن سياسة بلاده إلا أنه ذكر السودان كمثال للمناطق التي تجد فيها الولايات المتحدة تنافساً من قوى أخرى، وهذا يعني للمتابع أن الولايات المتحدة لن تألو جهداً في شحذ مختلف الآليات والأسلحة لتعزيز موقعها وحرمان الأطراف الأخرى أن تكون لديها اليد العليا في السودان.
وربما شمل ذلك حتى ما يسميه الأمريكيون الأكاديميون والساسة حرباً بالوكالة proxy كما يجري في السودان اليوم. فالعناصر الثلاثة حاضرة في السودان: صراع، وغياب للاستقرار السياسي، وخميرة للإرهاب قد تأتي من بوكو حرام غرباً أو من داعش شرقاً إن تمزق السودان أو عمته الفوضى أو سمحت الولايات المتحدة لدول حليفة لها في المنطقة أن تستخدم “فزاعة” الاسلاميين لحرمان طيف واسع من السودانيين من التنافس والتنفس الحر فوق سطح الماء تنفيذاً لمخاوف وأطماع تلك الدول التي تخشى ما تسميه الإسلام السياسي، وهم يرومون إسلام شعائر مسجوناً بين حوائط المساجد لا إسلام معاملات يسير بين الناس و يُسيِّر حياتهم، إذ الإسلام جله معاملات.
وللتصدي لهذه التحديات كما يقول بلينكن فإن الولايات المتحدة تسعى لتعزيز تحالفاتها و إيجاد تحالفات جديد “حلفاء جدد لردع العدوان وهزيمته”.
وقال بلينكن في خطابه لكبار موظفي الوزارة في معهد الشؤون الخارجية يوم الأربعاء الماضي، وهو يشير إلى التحديات و إلى مظان وجودها: “ونحن نرى هذا في مختلف أنحاء العالم، من الشرق الأوسط إلى السودان إلى فنزويلا. لذا فإن العالم الذي نواجهه أصبح أكثر تنافسية، وأكثر تعقيداً، وأكثر قابلية للاشتعال…”
ولم يذكر الوزير الأمريكي ولا مدير المعهد أية دولة عربية أو أفريقية غير السودان، في هذا الخطاب المهم حول السياسات الخارجية الأمريكية وسبل دعمها بل لم يذكر روسيا إلا أربع مرات وأوروبا أربع مرات وآسيا لم يذكر منها إلا الصين وإيران وكوريا الشمالية.. فإن كان هذا التعرض للسودان سالباً أم موجباً فهو دون شك يشي بمكانة السودان في السياسة الأمريكية الخارجية وتصوراتها لمظان الثروات الاقتصادية والأمن-ستراتيجية، ليشير إلى أن معالجة ما أسماه تحديات تواجه بلاده – ومن موقع قوة كما قال – اقتضى من الخارجية الأمريكية القيام “باستثمارات تاريخية هنا في الداخل في قدرتنا التنافسية عملنا على إعادة الانخراط، وتجديد، وإعادة تصور تحالفاتنا وشراكاتنا في مختلف أنحاء العالم.”
و تبريراً لسعي بلاده في تعزيز تفوقها، قال بلينكن أنه وفي كل مكان في العالم “أسمع أنا وزملائي نفس الشيء: الولايات المتحدة هي الشريك المفضل الأول. ليس فقط حكومتنا الفيدرالية بل يتمثل ذلك في الحكومة المحلية، والقطاع الخاص، والجامعات، وخبراء التكنولوجيا، والمؤسسات الخيرية….يظل الناس يتطلعون إلى الولايات المتحدة”.
تنفيذ السياسة الأمريكية بالتعاون مع الحلفاء
واستطرد وزير الخارجية الأمريكي في شرح توجهات بلاده ليقول : “الآن، من مصلحتنا العميقة أيضاً أن نتعاون مع نظرائنا في الخارج لأننا نستطيع أن ننجز معاً الكثير أكثر مما يستطيع أي منا أن يفعله بمفرده. ونحن نعلم أن قوة أصدقائنا ونجاحهم يعود بالنفع المباشر على أمننا وازدهارنا ــ المزيد من الأسواق لمنتجاتنا، والمزيد من الشركاء لمواجهة التحديات العالمية، وحلفاء جدد لردع العدوان وهزيمته. وهذا هو جوهر الشيء الذي كان يحرك نهجنا تجاه العالم ــ المصلحة الذاتية المستنيرة ــ وأعتقد أنه ينبغي أن يكون في صميم الطريقة التي نتعامل بها مع العالم الآن.”
و أضاف بلنكين أنه لكي تواجه بلاده ما يجري في العالم فإنه لابد أن تكون دبلوماسيتها وخاصة وزارة الخارجية الأمريكية “مناسبة للغرض، ومنظمة، ومجهزة بالموارد، ومتمتعة بالموهبة اللازمة للقيادة في التعامل مع القضايا الأكثر إلحاحاً في عصرنا.”
ثم انعطف يوضح الأسس التي يعمل عليها داخلياً قبل البناء للمستقبل،” كان علينا أن نعيد الاستثمار في بعض أسس مهنتنا الدبلوماسية: الخبرة الإقليمية لشعبنا، وإتقان اللغات الأجنبية، ومهارات التفاوض، وفهم السياسة والتاريخ الدوليين.” وكان علينا أيضًا أن نتعامل مع بعض قضايا الإدارة الأساسية – ضمان قدرتنا على الحفاظ على سفاراتنا وقنصلياتنا وحمايتها، وحماية بياناتنا واتصالاتنا، والاهتمام بصحة شعبنا ورفاهيته.
لا نريد اختراع العجلة:
وفي إطار البناء التراكمي للخبرات، قال الوزير الأمريكي “وفي الوقت نفسه، في تطوير أجندة التحديث هذه…. أردنا البناء على الجهود والمبادرات السابقة، وليس إعادة اختراع العجلة. أنظروا إلى العمل المذهل الذي قام به بعض أسلافي، الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، للعمل على تعزيز الوزارة.”وأضاف ” لقد استفدنا من رؤى وأصوات وخبرات وتجارب العديد من الأشخاص في جميع أنحاء الوزارة والحلفاء والشركاء في الكابيتول والعديد من الآخرين.”
واشار بلنكين إلى أحد الأعمدة الأساسية عند أمريكا والغرب عموماً وهي الاستمرارية، فليس لديهم ما عندنا من “كنس آثار مايو” أو تفكيك نظام الإنقاذ .. الخ ” حين أكد بأنهم يدركون أنهم لا يستطيعون إنهاء هذا العمل بين عشية وضحاها أو حتى في فترة أو إدارة واحدة وبأنه إذا كان من المقرر أن تستمر هذه الأجندة، “فيجب أن تكون متجذرة في مصلحتنا الوطنية، وفي المبادرات التي من المتوقع أن يحملها أي وزير خارجية، غض النظر عن حزبه، نيابة عن الشعب الأمريكي.”
واكد بلنكين أنه لم يكن من الممكن إنجاز أي من أعمال التحديث بدون دعم قوي من الحزبين في الكونجرس، حيث يتطلب الأمر جهودًا استثنائية وأشخاصاُ في كل منصب، وفي كل مكتب من مكاتب هذه الوزارة: أعضاء الخدمة المدنية والخدمة الخارجية، وأفراد الأسرة المؤهلين، والمقاولين، والموظفين المحليين.
سياسة جلب المواهب:
يقول بلينكن وهو يخاطب منسوبي وزارته: “دعوني أتحدث قليلاً عن ما أنجزناه حتى الآن، ومرة أخرى، ما الذي يتبقى القيام به. أولاً، لقد أعدنا تنظيم الوزارة واستثمرنا في قدرتنا على القيادة في القضايا التي تنشط فيها دبلوماسيتنا بشكل متزايد.
“لقد أنشأنا مكتب الأمن السيبراني والسياسة الرقمية ومكتب المبعوث الخاص للتكنولوجيا الحرجة والناشئة. لقد جلبنا مواهب لا تصدق في هذه المجالات لضمان أن الولايات المتحدة وشعبنا قادرون على تحقيق أهدافهم في المستقبل، إننا نحتفظ بميزتنا الجماعية في التقنيات التي تشكل مستقبلنا.
في جميع أنحاء دبلوماسيتنا، أعطينا الأولوية للريادة في المعايير والمقاييس، وتعزيز الحرية الرقمية، وحماية أكثر تقنياتنا حساسية، وجعل سلاسل التوريد الحيوية أكثر. نحن ملتزمون ببناء ما نسميه التضامن الرقمي – لأن لدينا مصلحة عميقة في العمل مع الشركاء الذين يشاركوننا رؤيتنا لمستقبل تكنولوجي نابض بالحياة ومنفتح وآمن ودعمهم.”
دبلوماسية الصحة:
ثم عقب بلينكن على الأذرع التي تلجأ إليها الوزارة في تنفيذ بعض من أجندتها مما لا يدخل في صميم العمل الدبلوماسي و لكن يعززه فقال إنه وفي أعقاب كوفيد، أوضح الرئيس بايدن أنهم بحاجة إلى إعطاء الأولوية للدبلوماسية الصحية، مستفيدين من عقود من الخبرة التي تتمتع بها وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع السارس، والإيبولا، وفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز. لذلك، أنشئ “مكتب الأمن والدبلوماسية الصحية العالمية ومن خلاله العمل كموقع مركزي لجميع جهودنا في مجال الصحة العامة، يعمل هذا الفريق مع شركائنا في الخارج لتعزيز النظم الصحية، ومحاربة الأمراض الفتاكة، ومنع الأوبئة في المستقبل”.
التحدي الصيني:
ثم تناول التحديات التي تفرضها جمهورية الصين الشعبية و التي قال إنها “تمس كل جانب من جوانب سياستنا الخارجية وكل منطقة من مناطق العالم. لذلك قمنا ببناء ما نسميه “بيت الصين” – وهو مكتب يجمع الخبراء من مختلف أنحاء الوزارة والوكالات الأخرى تحت سقف واحد، حيث يمكنهم تنسيق وإدارة هذه العلاقة الأكثر تعقيدًا وأهمية بشكل أفضل.”
“لقد استثمرنا في حكومتنا الاقتصادية – مع التركيز بشكل أكبر على تحسين تمويل التنمية، وتعزيز سلاسل التوريد، ورفع مستوى مكتب تنسيق العقوبات، وإنشاء منسق لمكافحة الفساد العالمي، وتعيين ممثل خاص لشؤون العمل الدولية، وإنشاء فريق عمل لمساعدة البلدان على أن تصبح أكثر مرونة في مواجهة الإكراه الاقتصادي.”
ثم انبرى بعد أن تناول الصين إلى روسيا والمجموعة التي يرى فيها توجهاً مناقضاً لمواقف بلاده فقال “إننا نواجه اليوم عدداً ضئيلاً من القوى الرجعية ــ وخاصة روسيا، بالشراكة مع إيران وكوريا الشمالية، فضلاً عن الصين ــ التي تتحدى مصالحنا وقيمنا بقوة، وهي عازمة على تغيير المبادئ الأساسية في قلب النظام الدولي. والصين وحدها اكتسبت القوة الاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية والعسكرية اللازمة للقيام بذلك على المستوى الإقليمي والعالمي.”
أين تكمن مصلحة أمريكا؟
فهل ينبغي علينا في هذا السياق وضمن هذه المنظومة من المحددات الأمريكية أن ننظر إلى ما يجري في بلادنا، وقد استبان أنه ليس في الأمر إلا مصالح وموارد و ليس فيه صديق دائم و إنما مصالح دائمة و متجددة كما يقول أهل السياسة أنه ليس من السياسة الحكيمة أن تخوض غمار حرب إن كان غيرك يقوم بذلك إنابة عنك إذ لا شك أنه إذا رغبت الولايات المتحدة أن تكف أيدي مَن يشعلل الحرب تمويلاً و تشويناً لفعلت لكنها تنظر إلى ما بعد ذلك : ماذا تستفيد شركاتها و اقتصادها و ماذا يخسر من تعده مناهضاً لها خصيم. وهل يعني ذلك أنه ينبغي على السودان بذل وعود قوية بالحفاظ على مصالح من يقف وراء الواجهات في الحرب القائمة الآن ليضمن الخلاص منها. وفي السودان من الموارد والموقع الجغرافي ما تشتهي أمريكا و زيادة، فهل في وحدته و أمنه وسلامه تتحقق أمنيات بلنكين أم في عدم استقراره و تشظيه يتحقق ما تصبو إليه أمريكا؟
ظني أن مثل هذه الجزئيات تظل محل نقاش الوزارة الأمريكية ولكن في غير مثل هذا الخطاب المبذول المتاح لمن يسعى إلى مظانه.
نقلا عن موقع “المحقق” الاخباري