الحداثيون: ما عسانا نفعل بهذا الإسلام!
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
يرهن كثير من الناس عندنا وعند غيرنا إنهاء الحرب حقاً بموارد وطنية تأخذ بناصيتها وتبلغ بها شط الأمان كما لا يفعل غيرها في العالم. وهو فأل حسن ولكن تمامه رهين بفحص دقيق لهذه الموارد التي انتخبنا منها هنا صفوة الرأي والقلم لنقف على ما بوسعها القيام به لوقف الحرب.
في يوم الجمعة قبيل استقلال السودان عام 1956، جاء المدير السوداني الأول لمديرية كردفان مكاوي سليمان أكرت إلى مسجد المدينة بجلبابه وعمامته ونزل بسيارته الحكومية يرفرف على جانبيها العلم. ولم يصدق الناس عيونهم. فللمرة الأولى منذ عام 1898 يصلي حاكمهم كما يصلون لوجه الله. وكتب محرر جريدة كردفان، الفاتح النور، أنه في اليوم التالي للجمعة الغراء زاره مولانا محمد الأمين القرشي، قاض شرعي وابن القرشي أستاذ الإمام المهدي، ومن صادم الإنجليز كثيراً في أمور الدين، وقال له “قل لصاحبك المدير ما ينقطع عن صلاة الجمعة، وقول ليه صلاتك أمس صحت المسلمين ورفعت معنوياتهم، وأحس ضعاف الإيمان والسذج بعظمة الإسلام بصلاته هذه، ومن واجبنا أن نسايرهم على قدر عقولهم، قول له ما يهدر فرحتهم ولا يتخلف عن صلاة الجمعة أبداً، وإذا كان الوضوء صعب وكان البرد شديداً يجي بس من دون وضوء” (الأيام، 4 يناير 1988).
لا أعرف حكاية جسدت مفهوم “الهوان الأخلاقي الاستعماري” لبازل ديفدسون، المؤرخ النبيل لأفريقيا، مثل مطلب الشيخ القرشي من مدير المديرية في دولة استقلت لتوها أن يمحو عار نازلة الاستعمار بصلاته الجمعة ولو بغير وضوء. فقال ديفدسون إن المسلم يحس بعار هذا الهوان فطرياً لتطاول حكم الكفر، يقضون أمرهم ولا يؤمنوهم في مصلاهم. وزاد ديفدسون بقوله إن الصفوة، خلافاً لعامة الناس، قبلت بهذا الهوان المذل كثمن لا بد من دفعه لاقتناء الحداثة. وخرجت لإزالة هذا العار مشاريع إسلامية أو صحوات مثل “الإخوان المسلمين”، وحتى حركة الجمهوريين لمحمود محمد طه عندنا، لا تزال تخطئ وتصيب، ولكنها جميعاً مما استمد أرقه الثقافي والروحي لتفكيك إرث الاستعمار من هذا الهوان الأخلاقي الاستعماري.
هوية الدولة
سأل أحدهم رمزاً من رموز ثورة ديسمبر 2019 بعد وقوعها بوقت قصير عما يريدون من هوية للدولة التي سينشئونها على أنقاض “دولة الإنقاذ”، وهو سؤال في صميم ما يريدون كثوار لمنزلة الإسلام في تلك الدولة. وقال الرمز إنهم سيعقدون مؤتمراً لنقاش المسألة عن قريب. وها أنت ترى تسويف هذا الرمز الحداثي في موضوع هوية الدولة لا بعد ثلثي قرن من استقلالنا وحسب، بل بعد ثلاثة عقود أيضاً من صراعهم على دولة جازفت بهوية إسلامية للدولة ولم تحسن صنعاً وسقطت بوابل اتهامها بـ “الثيولوجية أو حتى “الظلامية”، في إشارة إلى القرون الوسطى في أوروبا.
ولا يعرف المرء كيف حاربوا مثلها لـ 30 عاماً ولم يتواضعوا على بديل لها استوفى شروطه من جهة الدولة والإسلام وهي المسألة المركزية في السياسة السودانية في أعقاب ثورة أكتوبر 1964.
وتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة من جهة إسلامها قديم واحتالت على هذا بصور مختلفة. فهي إما قالت إن الإسلام السوداني شعبي لا أرثوذكسي خلا من التشدد الشرعي وصح ألا نهجس بهوية الدولة ومنزلة الشريعة فيها، أو أن من جاء بالدين للسياسة جاء به من باب استغلاله لمصالحه، أو انتهز سانحة وجود غير المسلمين في الدولة ليبطل موضوع دينها بالكلية، أو أذاع أن الفصل بين الدين والدولة اكتمل في الغرب ولسنا من يريد اختراع العجلة، أو استجهل القائمين بالصحوة عندنا وأراهم بينات علمه بها ليفحمهم لا لينافسهم بمشروع حسن له فيها.
الحكم والدين
فالاتفاق بين صفوة الحداثة قائم بأن سلطنة الفونج (1504-1821)، الدولة المسلمة الأولى في السودان، اتخذت الإسلام ديناً ولكن وشته بوثنيات جعلته إسلاماً “أفريقيا” شعبياً، ولو نفخت في هذه العبارة تردها إلى أصل لجرجرت أذيالها عائدة لموضعها الأصل في كتاب “الإسلام في السودان” للمبشر الأنغليكاني سبنسر ترمنغهام (1949). وهو الكتاب الذي أصبحت مادته من المعلوم بالضرورة عن إسلام السودان لدى الصفوة يأخذ من معارفه التي على الشيوع حتى من لم يقرأه. وقد راق الحداثيون هذا الفصل بين الدين الرسمي الأرثوذكسي والشعبي لأنه يبيح لهم شجب الإسلاميين وطبقة العلماء باستيحاء دين غير دين أهلهم مما يوقعهم في الشطط الديني والهوس.
وطال بهم الأخذ بهذه الحيلة الفكرية منذ مقاومتهم مشروع الدستور الإسلامي عام 1968 إلى يومنا هذا يرمون الضالعين في بناء الدولة الإسلامية بالغربة عن المعلوم عن تعبد أهل السودان بالضرورة. وظلت صورة هذا المبشر المسيحي للإسلام في السودان متماسكة لا يعتورها شك أو مراجعة على مدى العقود التي تصرمت منذ فترة مضطربة طوال عهد الاستقلال وخلال، طغى فيها موضوع الدين. وصار كتابه العمدة في خطاب الحداثيين عن إسلام السودان وهو الظنين فينا بقوله “إذا ما تحرر السوداني من إرثه الديني فإن تطوير فكره وخياله سيكون أمراً ميسوراً”.
مفهوم الأداتية
أما الحيلة الأخرى لتغاضي الصفوة الحداثية عن هوية الدولة ناظرين لإسلام أهلها فهي في رمي كل ساع إلى توطين الدولة على شيء من إسلامها بأنه استغلال للدين وهو ما يعرف بالتفسير الأداتي (instrumentalist) للدين.
وبالنتيجة فقد أعفى مفهوم الأداتية الحداثيين من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى، أو سيتولى، قياد شعب كثيره مسلم. فكل الإسلام سياسة بنظر الأداتية. ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشرّ. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس “الإسلام الشعبي” الذي خالطته “الوثنية الأفريقية” في رأي ترمنغهام، فلا نفع منه ولا خطر، كما تقدم. ولم تسأل الصفوة الحداثية نفسها إن كان يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان، أم أن هناك أشراطاً تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج، فيستصحبها “المستغل”؟ فتجد في الولايات المتحدة من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكري نظرية التطور، أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا الـ 10 كفاحاً. ولم ينقد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم، وربما تهيأ يوماً كما سنرى.
ولما اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على “غيتوني” (وهو مستغل الدين في عرف الناس) غاب عنّا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. فحرام على الدين عند الصفوة الحداثية أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في “حال تسلل”. ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم، حتى الإسلاميين منهم، فقد رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة الإسلامية يذهب في تفسيرها إلى أبعد من ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ. والسبيل إلى ذلك، في قوله، أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
أما الحيلة الثالثة للصفوي الحداثي للتغاضي عن هوية الدولة ناظراً إلى إسلامها فهو استخدامه لوجود غير المسلمين في السودان، وكانوا أمة من الناس قبل انفصال الجنوب، للقول بأن هوية الدولة الإسلامية مما يغمط حقوقهم كمواطنين، وقولهم هذا حق إلا أن في التشريع من الدماثة ووسع الحيلة ليعقد في الحلال حقوق سائر من في الأمة، فليست خطة الإسلاميين في السودان ودولتهم نهاية الأرب.
ونعرض لمزيد من حيل الحداثيين التفاتاً للجهة الأخرى ما طرأ طارئ الدين والحكم.