رأي

الثورة بضمير الغائب…الجذرية حين تتحول إلى مهارة إفلات

 

بقلم عبدالعزيز يعقوب

في السودان، لا تبدأ السياسة من المنابر، بل من الشارع. والشارع هنا لا يسأل عن البرامج، بل عن الثمن.عن من يدفعه دماً، ومن ينجو، ومن يرفع الشعارات ثم يختفي حين تُحصَّل الفاتورة.

الجذرية، في أصلها، وعدٌ جميل.

وعدٌ يقول إن العطب في الجذور، وإن القصّ من الأعلى لا يكفي، وإن العدالة لا تُجزّأ.

لكن الوعود، حين تُلقى في بلدٍ مثقل بالحروب، تتغيّر نبرتها.تصير عالية الصوت، خفيفة الوزن، إن لم تجد من يحملها على كتفيه ويمشي بها في الرمال والتراب و الطين.

كنا نجلس في مقهى قديم، طاولاته تهتز مثل الدولة، وكراسيه تعرف أكثر مما تقوله الصحف. الشارع أمامنا كان حيًّا أكثر من كل البيانات السياسية.

باعة، عمال، وجوه متعبة، وعيون تعرف أن السياسة هنا ليست نظرية، بل مسألة نجاة.

قلت لصديقي اليساري، وأنا أتابع حركة الناس:

– نحن نختلف لأننا نفكّر كما لو أننا بلد مستقر، بينما نحن بلد يعيش على الحافة منذ الاستقلال.

ابتسم، تلك الابتسامة التي تجمع بين الإيمان والإنكار.

قال:

– لكن الثورة جاءت لتغيّر كل هذا.

قلت:

– الثورة جاءت، نعم. لكن الدولة لم تأتِ بعدها. في كل مرة تقوم الثورة وتغيب بعدها الدولة.

السودان ليس صفحة بيضاء، بل دفتر قديم مثقوب بالدم والشطب. بلد متعدّد وهشّ، لا تحكمه الأحزاب بقدر ما تحكمه شبكات نفوذ متراكمة بُنى تقليدية، قبايل متداخلة واقتصاد بدائي ضخم مصالح،، وتوازنات عسكرية وأمنية، تتبدّل واجهاتها ولا يتبدّل منطقها. لذلك لا تعترف السياسة فيه بالنقاء، بل بالبقاء

صمتٌ للحظة، ثم قلت:

– الجذرية جاءت من تجارب كانت فيها الدولة موجودة أصلًا. هناك.

نحن نحاول اقتلاع الجذور بينما التربة نفسها تتفكك.

سألني:

– هل تعني أنها لا تصلح؟

قلت:

– تصلح كحلم. لكن الأحلام، إن لم تجد أقدامًا، تظل معلّقة في الهواء.

الجذرية في السودان تشبه خطبة عظيمة في جنازة بلا نعش.لغة عالية، أخلاق صلبة، لكنها لا تمسك بالأرض. والأرض هنا عنيدة، لا تُقنعها الشعارات فقط.

قلت له:

– الحزب الجذري لا يملك قاعدة جماهيرية عريضة. وهذه ليست شتيمة. هذه حقيقة سياسية.

لا يستطيع أن يحكم وحده، ولا أن يقود الانتقال وحده، ومع ذلك يرفض أن يكون شريكًا كاملًا.

قال:

– لذلك يدخل التحالفات الذكية.

قلت:

– يدخلها، نعم. لكن دون أن يوقّع بوضوح.

يدخل بواجهات أخرى، بأسماء مستعارة، بلغة أخلاقية تُخفي الموقع الحقيقي.

يكون داخل الكتل فنيًا، ويبقي خارجها رسميًا.

وحين تنجح التجربة، يُلوّح بظلّه ويقول كنا هنا كنا روح العمل.

وحين تفشل، ينسحب خطوة ويقول لم نكن جزءًا منها لأنها لاتمثل برنامج الثورة.

هكذا تتحوّل الجذرية من موقف شجاع إلى مهارة إفلات وعدم تحمل المسئولية .

سكت قليلًا، ثم قلت له بنبرة أكثر مباشرة، كمن يضع إصبعه على الجرح:

– المشكلة لم تكن في نقد الهبوط الناعم وحده، بل في شق الصف.

حين أعلنتم كتلة التغيير الجذري في مواجهة تحالفات كانت تمتلك الشارع والقاعدة، لم تُضعفوا خصومكم فقط، بل أضعفتم الانتقال نفسه.

بدل محاولة التوفيق، وجرّ الجميع نحو برنامج واضح لتقوية مؤسسات التحول الديمقراطي، دخلتم في صراع مع مكونات التغيير الفاعلة.

نظر إليّ، فواصلت:

– كان يمكن توجيه الجهد كله نحو ما يبني الدولة ومؤسسات الشرعية الدستورية، قانون الأحزاب، الإحصاء السكاني، المحكمة العليا، وكل الآليات التي تحوّل الثورة إلى نظام ودولة.

أكملت بعد صمت..

لكن المعركة انزلقت من مواجهة الواقع إلى مواجهة جانبية داخل الصف نفسه، حيث لم يعد السؤال كيف نُنقذ الانتقال، بل من الأصدق، ومن الأشد، ومن الأحق بالحديث باسم الثورة، حتى تآكل الوقت وتقدّم الانهيار خطوة خطوة

 

تنهد وقال:

– السياسة معقّدة ، والتخوين سهل!

قلت:

– نعم. لكنها لا تُعفي أحدًا من المسؤولية.

في السودان، التحالفات لم تكن خيانة بالضرورة.

كانت محاولة يائسة لإدارة واقع مستحيل…

عسكر يملكون السلاح،

أحزاب تملك التاريخ،

شارع يملك الغضب ولا يملك الدولة.

قال:

– لكنها سقطت.

قلت:

– سقطت لأنها كانت هشة، نعم.

لكنها سقطت أيضًا لأن هناك من رفع سقف المطالب، ثم رفض أن يقف تحت السقف حين بدأ يتهاوى.

أشرت إلى النيل البعيد، وقلت:

– انظر للتجارب الأخرى.

في إيطاليا، الشيوعيون تحالفوا مع الحزب المسيحي الديمقراطي المحافظ وعرفت بالاستراتيجية التوافقية ولم يذوبوا. وحققوا نجاحات كبيرة.

في تشيلي، دخلوا اللعبة بتحالفات عديدة علي مدار ٦٠ عاماً ولم يفقدوا هويتهم.

في جنوب أفريقيا، اختاروا الانتقال التدريجي لأن البلد كان عندهم أكبر من أي نقاء أيديولوجي واصطفاف فكري او حزبي.

هنا، في السودان، الجذرية تحتاج أن تتعلّم المشي قبل الطيران.

أن تفهم أن العدالة لا تتحقق بالصوت العالي وحده، بل بالصبر، وبالتحمل، والمسئولية وبالقدرة على دفع الثمن.

قال بصوت منخفض:

– يعني إمّا أن نكون داخل المعركة بالكامل، أو خارجها بوضوح؟

قلت:

– بالضبط.

لأن أسوأ موقع في السياسة السودانية هو أن تكون حاضرًا في القرار، وغائبًا عن نتائجه، وتظل في ظل المنطقة الرمادية.

خرجنا من المقهى.

وكان الشارع، كعادته، أكثر صدقًا من كل النقاشات.

ناس يمشون، يبيعون، يتجادلون، ويعيشون بلا رفاهية الشعارات.

وفي النهاية، الحقيقة التي لا تحبها الأيديولوجيات ولا يهرب منها الواقع ..

لا ثورة بلا مسؤولية،

ولا جذرية بلا جمهور عريض،

ولا سياسة أخلاقية دون استعداد لدفع كلفتها.

في السودان، من يريد أن يكون جذريًا عليه أن يكون حاضرًا حين تُكتب القرارات،

وحين تُحاسَب التجارب،

وحين يسقط السقف على رؤوس الناس.

أما من يصرّ على أن يكون في الداخل دون توقيع،

وفي الخارج دون معارضة،

فسيظل يكتب الثورة بضمير الغائب…

إلى أن يكتب التاريخ اسمه بضمير الفشل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى