رأي

الثقافة المحاصرة.. هل تنجو هوية السودان الثقافية والتاريخية من نيران الحرب؟

الصادق محمد أحمد

منذ زمن بعيد كانت الثقافة السودانية تجسيداً لتنوع عرقي وثقافي غني، يعكس تاريخاً باذخاً من التفاعل بين ثقافات متعددة تجمع بين العادات والتقاليد العربية والأفريقية ،فالسودان هو موطن للعديد من القبائل ذات تنوع اثني فريد و مميز ، وكل منها يحمل لغته وعاداته الخاصة ، وبالإضافة إلى ذلك يتميز السودان بموسيقاه الشعبية، وأدبه الشفاهي وفنونه التشكيلية مثل الرسم والنحت، والرقصات التقليدية. بالرغم من غنى الثقافة السودانية إلا أن الحرب كان لها بالغ الأثر على جميع الجوانب، فقد أدت إلى تشتيت المجتمعات في المقام الأول ، الأمر الذي جعل الكثيرين يفقدون صلتهم بجذورهم الثقافية ، هذا بالإضافة إلى تعرض المواقع التاريخية والمعالم الثقافية من متاحف ودور ثقافة ومكتبات و مواقع أثرية للتدمير والسرقة ، مما سيؤدي بكل تأكيد إلى إضعاف التراث الثقافي للبلاد وإرثها الحضاري المتجذر في أعماق التاريخ.
لقد شكلت هذه الحرب الموجهة ضد شعب السودان محاولة بائسة استهدفت طمس الهوية السودانية، وذلك بالسعي للتغيير الديموغرافي وفرض هوية ثقافية واجتماعية دخيلة على حساب الهوية السودانية التقليدية، وتظهر هذه المحاولات بجلاء في سلوك عربان الشتات الذين أتى بهم المتمردون، فقد قاموا بنهب الآثار التاريخية من المواقع الأثرية والمتاحف، وكذلك قاموا بالتدمير الممنهج لمعالم الهوية الثقافية والتاريخية السودانية، مما يُعتبر جزءاً من استراتيجية مُخَطط لها وتهدف إلى طمس معالم التاريخ السوداني وتقويض ارتباط الشعب السوداني بجذوره الحضارية والثقافية ، حيث أن فقدان هذه الآثار لا يعني فقط خسارة للموروث الثقافي، بل إنه يساهم في تغيير السرد التاريخي وتقديم رؤية جديدة للهوية السودانية.
لقد تجلت محاولات التغيير الديموغرافي في ممارسة المليشيات المتمردة وعربان الشتات لسياسة التهجير القسري وإعادة توطين مجموعات عرقية معينة في مناطق استراتيجية مما أدى إلى نزوح جماعي للسكان الأصليين من مناطق وجودهم التأريخية وتوطين أفراد من مجتمعات أخرى بهدف جعل بعض المجموعات أقلية في مناطقها التقليدية، مما يُعَد تعزيزاً للتوجهات التي كانت تهدف إلى تغييرات جذرية في الهوية والمجتمع السوداني.
لقد أضحت الثقافة السودانية تواجه تحديات مؤثرة، فقد تسببت هذه الحرب في تراجع الفنون والآداب، حيث أُجبِر الكثير من الفنانين والشعراء والمبدعين في مختلف المجالات على التركيز على قضايا البقاء والتكيف بدلًا من التعبير عن الهوية الثقافية.
لقد تعرض الإبداع الثقافي للتهميش والإهمال الأمر الذي يُثير قلقاً حول عما إذا كانت الأعمال الفنية والأدبية لا تزال قادرة على التعبير عن الهوية في ظل الظروف القاسية التي يتعرض لها المبدعون والمثقفون أسوة بجميع المواطنين السودانيين المتأثرين بهذه الحرب ، ولكن وبالرغم من هذه الظروف القاسية فإن الثقافة السودانية لا تزال تقاوم، فهناك العديد من المبادرات الثقافية التي تهدف إلى الحفاظ على الهوية الثقافية، وسوف تحين الفرصة المناسبة -عما قريب بإذن الله- لإقامة فعاليات ثقافية ومهرجانات موسيقية وفنية احتفالاً بالنصر في جميع ربوع البلاد، واحتفالاً وإحتفاءاً بالتنوع الثقافي في بلادنا الحبيبة.
إن العمل على توثيق التراث الشفاهي من خلال تسجيل الحكايات الشعبية والإرث الثقافي والتاريخي السوداني يلعب دوراً بارزاً في تعزيز الهوية الثقافية، وكذلك في الحفاظ على التراث الثقافي في ظل الأزمات، وربما شهدنا مؤخراً انتهاج أساليب جديدة في التعبير عن الهويات المتعددة للشعب السوداني من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الأعمال الفنية والتواصل مع جمهور أوسع، مما يساعد على إعادة إحياء الثقافة السودانية.
إن الحفاظ على الهوية الثقافية في السودان يتطلب نهجاً شاملاً يتضمن الحوار الثقافي بين مختلف المجتمعات، فتواصل الأفراد من خلفيات ثقافية متنوعة يُمَكِن من تبادل الأفكار والخبرات ويساهم في تعزيز الفهم المتبادل، لذلك يجب على الحكومة والمنظمات الدولية المهتمة بالمحافظة على التراث الإنساني -مثل اليونسكو- دعم المبادرات التي تعزز من الحوار الثقافي، وتساهم في بناء مجتمع متماسك يحافظ على ثقافته.
إن الهوية الثقافية السودانية تواجه الآن تحديات هائلة في ظل هذه الحرب التي فُرِضَت على الشعب السوداني ودولته، ومع ذلك فإن الهوية السودانية لا تزال تقاوم بفضل جهود الأفراد والمجتمعات والحادبين على التراث والثقافة السودانية المتجذرة في وجدان السودانيين والسودانيات.
إن الحفاظ على الثقافة ليس مجرد واجب أخلاقي فقط بل هو ضرورة ملحة لتوحيد المجتمعات السودانية وبناء مستقبل واعد مزدهر لتكون الثقافة جسراً يوحد الشعب السوداني، ويضمن أن تبقى هويته حية رغم كل الصعوبات والتحديات الماثلة، فالثقافة هي روح الأمم ومن الضروري أن نعمل جميعاً على حمايتها وضمان استمرارها في مواجهة من يعملون على محاولات طمس الهوية السودانية، فما يحدث في السودان ليس مجرد -صراع داخلي- كما يحاول البعض تصويره، بل هو جزء من معركة أكبر للسيطرة على المستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتاريخي والحضاري للسودان ، لذلك فإن الحفاظ على الهوية الثقافية والتراث التاريخي يُعَد أمراً حيويًا لضمان استقرار السودان ووحدته يقع على عاتق جميع السودانيين بدون استثناء ، فليقم كل منا بدوره من أجل الحفاظ على الهوية السودانية والتاريخ والإرث الحضاري لهذا البلد العظيم.

“الساقية برس”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى