رأي

التمليص كمسرح… والتبرير كنهج

فيما ارى

عادل الباز

1

حين ضجّت الميديا بما فعله تروس في ليلة احتفال بذكرى ثورة ديسمبر الذي نظّمته الجالية السودانية في كمبالا، أوغندا، في أواخر شهر ديسمبر 2025، حاول أنصار قحت إيجاد شتى المبررات للدفاع عن فعل تروس. ولكني توقّفت عند تبريرٍ وحيد أزعجني، وهو أنّ ما قام به تروس أداء مسرحي، وهو ليس كذلك ، وذلك باعتبار أني عاشق لفن المسرح وكاتب سيناريو.

2

إنّ الفعل في المسرح ليس عبثيًا، وحتى فيما أسموه “مسرح العبث”، فرائد مسرح العبث (Theatre of the Absurd)، الكاتب المسرحي الروماني-الفرنسي يوجين يونسكو (Eugène Ionesco)  اسمهوهو مسرح العبث” لأنه يعكس عبثية الوجود الإنساني ولا منطقيّة الحياة كما عرفه النقاد (مسرحية في انتظار غودو نموذجًا)، لكنه مسرح منضبط بقواعد المسرح.

3

آخرون اعتبروا ما فعله تروس يحاكي ما جرى تسميته مسرحيًا بـ”كسر الحائط الرابع”. حين يكسر الممثل هذا الحائط، فهو يلتفت للجمهور، ويعلّق على الأحداث، ويعترف بأنه داخل عمل تمثيلي، أو يدخل الجمهور كجزء من القصة.

الشاهد هنا أن تروس قد ارتجل تمليصه للبنطلون، ولذا فهو فعل خارج سياق الفعل المسرحي. فمثلًا لا يمكن لشخص في بيت بكاء أن يقهقه بصوت عالٍ ثم يقال إنه كان يمثّل، إذ إنّ سياق الفعل زمانيًا ومكانيًا لا يتسق مع الفعل.

فلو كان تروس يؤدي دورًا في مسرحية وخلع ملابسه في سياق متصل بنص المسرحية ورؤية المخرج، فلا يمكن استنكار فعله هذا. أمّا في السياق (الحفل) الذي فعل فيه تروس ارتجاله ذلك، فلا يمكن إسناده إلى فعل درامي أو مسرحي. فعلى المبرراتية أن يبحثوا عن أسباب أخرى لفعل تروس، بعيدًا عن فن المسرح، حتى لا يُنسب فعل لا ينتمي لأيّ فن، ناهيك عن المسرح.

4

ما يدهشني في مبرراتية قحت هو أنهم يملكون تبريرًا لكل شيء مهما بلغ مستوى قبحه. فتبرير ما فعله تروس هين إذا ما قورن بتبريرهم لجرائم الجنجويد الذين انتهكوا أعراض أمهاتهم وأخواتهم أمام أعينهم ، وهو هين بجانب تبريرهم لجرائم الإبادة التي يرتكبها الجنجويد.

خميس أبكر، الذي وقع معهم على سيّئ الذكر “الإطاري”، حين قتله الجنجويد وسحلوه وجرّوه ميتًا على قارعة طرق نيالا… صمتوا، وبعضهم برّر ما فعله الجنجويد.

حين وقعت مذبحة ود النورة، برّروا للجنجويد فعلهم (بأن القرية بها سلاح).

برّروا احتلال المنازل ( اخذوها بالقوة) وقصف محطات الكهرباء (لأنها تشحن المسيّرات)…برّروا احتلال المستشفيات والنهب والقتل…برّروا العدوان الإماراتي الفاضح الذي شهدت عليه الدنيا( تدافع عن مصالحها)، ولم تشأ قحت ورهطها إدانته.

5

أدمنوا التبرير فأصبحوا يبررون كل الجرائم، ومن يبرّر اغتصاب أهله وقتلهم وإبادتهم لا يعجزه تبرير “تمليص تروس”.

أقول لتروس: “ملّص ما شئت”، فأنت أصلًا تمارس فعلك هذا أمام عراة تجردوا من كل قيمة فنية أو وطنية، ولا يهمّهم إن ملصت “ملط” أو لبست “كرفته” من غير هدوم.

هم يا تروس قبلوا مصافحة المجرمين ودماء الحرائر تنزف من بين أفخاذهن، ودماء الفاشريين لم تجف في الطرقات بعد.

بقت على تمليصك لقميص وبنطال؟

وكما قلت في تسجيل آخر بعد ليلة التمليص ديك:

“(هو في تمليص أكتر من الأطفال الفِي المعسكرات)”.

نعم، ليس هناك ما هو أبشع سوى فعل جوقة المبرراتية الذين يصفقون للقتلة الذين تسببوا في تشريد الأطفال وتعليق النساء بعد اغتصابهن في جذوع الأشجار. كما قلت…!!

6

إنّ المأساة تتجاوز فعل “تمليص”  القضية أبعد من ذلك بكثير، وهي تتعلق بثقافة سياسية كاملة باتت تتعامل مع الأخطاء الصغيرة والكبيرة بمنطق التسويغ والتبرير. وحين تتحوّل المأساة الوطنية إلى مادة للتأويلات المتعسّفة، يفقد الناس قدرتهم على التمييز بين الخطأ والجرم، وبين الهفوة والكراهية، وبين العبث الفني وبين العبث الأخلاقي.

7

وما يفاقم الجرح أنّ التبرير لا يعكس خللًا في الوعي فحسب، بل انهيارًا في منظومة القيم لدى تيار سياسي كان يفترض فيه أن يكون الأكثر تمسكًا بحقوق الإنسان وكرامة الضحايا. فإذا أصبح التطبيع مع الإبادة، والتغافل عن الاغتصاب، والتماس الأعذار للقتلة، سلوكًا يوميًا في خطابهم العام، فهنا تكمن الكارثة الحقيقية—not في فعل تروس فقط، بل في كيان  سياسي  يبرر ملا يمكن تبريره.

ولذلك، فإن نقد التبرير ليس ترفًا لغويًا أو خصومة حزبية، بل معركة أخلاقية في زمن تختلط فيه المواقف، وتتساقط فيه الأقنعة، ويُبتذل فيه الألم السوداني على مرأى من العالم. وما لم يُستعاد معيار واضح للحق والباطل، سيظل كل “تمليص صغير” واجهة تخفي وراءها تمليصًا أكبر: تمليص الحقيقة والذاكرة والعدالة. يا تروس، ملّص ما شئت، فهذا زمان العراة الممسوخين  خدام الجنجويد الإماراتي…!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى