عبد الله علي إبراهيم
بعد أربعة أشهر من اندلاع ثورة ديسمبر 2018 والتي سجلت نجاحها الأول في الـ 11 من أبريل 2019 بانقلاب اللجنة الأمنية لنظام الرئيس عمر حسن أحمد البشير عليه في ذلك اليوم وإعلانها الانحياز لثورة الشعب، وقبل أيام حلت الذكرى الخامسة لهذا الانتصار، ويوم الذكرى هذا موسم لخطاب نعيها بين دوائر سودانية شق عليها ما تراه من فشلها.
وكانت حكومة ثورة ديسمبر الانتقالية تعثرت وتربص العسكريون بها، وانقلبوا عليها في أكتوبر 2022 ومسحوا سجلها في التحول الديمقراطي “بالأستيكة” في قول أحد السياسيين. وخطاب النعي هذا متواتر بعد ما نهض السودانيون بثورة غيروا بها ما بهم من نظم ديكتاتورية في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، بل استشرى هذا النعي لتغيير ما بنا وطال الاستقلال من الإنجليز نفسه، فزكى أحدهم يوماً نائباً برلمانياً كان تقدم بمشروع قرار للاستقلال عن بريطانيا في برلمان الحكم الذاتي في الـ 19 من ديسمبر 1955، فقال له معلقاً “رحم الله النائب، ولكن بالله مطلعهم ليه”، ولا حاجة بنا إلى القول إن الحرب القائمة تضاعف هذا النعي وتضرجه.
وزكت الدوائر الأكاديمية أخيراً كتاباً مبتكراً في تحليل فشل الثورات للمؤرخ البريطاني كرستوفر كلارك عنوانه “الربيع الثوري… أوروبا المشتعلة والنضال لعالم جديد 1848-1849” (نيويورك: كراون 2023) قال فيه “إن نجاح الثورات الأوروبية وفشلها سؤال طارد الكتابة التاريخية عنها لأجيال، ورد العقيدة في فشلها لأننا نحمل في رؤوسنا مثالاً أسطورياً عن الثورة كلحظة طلق ينهض بها طلاب التغيير يحطمون العالم القديم ويبنون من فوقه دولة تطابق صورتهم لما ينبغي أن يكون عليه العالم”، وسأل إن “كانت من ثورة في الدنيا تطابقت مع هذا المعيار الضيق؟ فما نعني بالضبط حين نقول إن ثورة ما أصابت النجاح؟ هل نجحت الثورة الفرنسية؟ كان لتلك الثورة تحولاتها المؤثرة بحق، ولكن سرعان ما ذهب ريح الملكية الدستورية التي أقامتها فوق ركام الملكية المطلقة حتى صعد نابليون على السدة“.
وأضاف المؤرخ البريطاني، “إننا لا نقول عن عاصفة على المحيط إنها نجحت أو فشلت، ونكتفي ببساطة بقياس تأثيراتها، وبالطبع فالثورة حدث سياسي لا طبيعياً، وعليه فهي ثمرة مقصد وإرادة، فإذا قصر ناتج الإرادة منها من دون المقاصد صح أن نقول إنها ثورة فاشلة، ولكن وجب الاحتراز هنا، فبينما يكون للناس الذي أخذت الثورة بمجامع قلوبهم مقاصد لم تتحقق أحياناً فليس هذا مما ينطبق على الثورة نفسها التي هي جماع شقاق اجتماعي كثير المقاصد أو ذي مقاصد متناقضة تماماً“.
وبدا أن كلارك يحمّل المؤرخين وزر التشويش حيال السؤال عن نجاح الثورة وفشلها، فقال إن ثورة 1848 في أوروبا كانت ممارسة ووعياً أوروبي النطاق، ولكن ما تمكنت الدولة الوطنية من القارة العجوز حتى اقتطعت تاريخ ثورة 1848 من نطاقه الأوروبي وفصلته على مقاس كل دولة وطنية على حدة، ففرقوا دمها بين القبائل وحجبوا دلالاتها في زمانها وإسقاطاتها في ما بعده.
وخفي على المؤرخين، لاقتصارهم على دراسة الصراع بين قوى القديم والجديد في الثورات، جوانب كثيرة من دراما تلك الثورات ومعانيها، فيراهم اقتصروا على عاجل الثورة لا آجلها، أي تأثيرها الذي لا ينمحي على هذا الصراع إلى يوم المسلمين هذا، فقال إن أياً من الجماعتين المتصارعتين لا يبقى على حاله القديم بعد الثورة، ففي صراع القوى الجديدة والقديمة لا تقل مساهمة القوى القديمة عن القوى الجديدة في تشكيل الناتج من الثورة على المديين القصير والطويل، بل تطرأ على القوى القديمة التي كتبت لها الحياة بعد الثورة، تحولات لم يتوقف عندها كثير من المؤرخين.
وعملاً بقول كلارك فربما كان هذا النعي للثورة السودانية بالفشل من صنع من كتبوا عنها، وفشل الثورة دون تحقيق مقاصدها موضع اتفاق بين كتّاب سودانيين قيموا أثرها في حياة أهلهم، وسنركز على كتاباتهم عن ثورة أكتوبر 1964 لأنها أول الثورات والكتابة عنها أكثر من غيرها، فقال عميد الصحافة السودانية محجوب محمد صالح الذي رحل منا منذ أسابيع إنه ينطبق على ثورة أكتوبر القول إنها “ثورة لم تكتمل”، وهكذا تم حسابها على عودتنا من النتيجة المنتظرة منها في صناعة سودان جديد بخفي حنين، وكل شيخ وله طريقة في بيان كيف قصرت الثورة من دون الغاية وفشلت.
وقال السياسي والمؤرخ حسن عابدين إن ثورة أكتوبر “لم تكن ثورة وإنما انتفاضة، لأن الصحيح أن تحدث الثورة تغييراً في نظام الحكم وحركة المجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد وتغييراً في كل شيء، وهذا لم يحدث في أكتوبر“.
وبدا من قوله إنه يعد الانتفاضة ثورة خديجاً، وتجد مثل الأكاديمي والخبير السابق بالبنك الدولي سلمان محمد سلمان ينعي عليها خذلانها لقضية الجنوب خذلاناً باكراً وكبيراً. واستغرب من الثورة ذلك وهي التي انقدحت شراراتها في ملابسات احتجاج سياسي معارض واسع لحرب نظام الفريق عبود (1958 – 1964) للقوميين الجنوبيين، وهي الحرب التي طاولت وساءت بغير أفق لائح لنهايتها، وبلغ من كساد تلك الحرب أن النظام نفسه من فتح مسألتها للرأي العام للنقاش، وفلت النقاش من يد النظام فأوقد ثورة.
أما الأكاديمي والصحافي عبدالوهاب الأفندي فأفشل “ثورة أكتوبر” بنقض ما يزعم لها من جذرية قلبت عالي السودان سافله، بل رأى في هذه السمعة للثورة بالجذرية شراً مستطيراً على السودان، فنفى أنها انتصار لثورة راديكالية غيرت الخريطة السودانية كما نزعم، فهي عنده تطور طبيعي في إطار تفاهمات وتنافس نخبة صغيرة تتشارك في الرؤى والمصالح، وجاء هذا منه بمثابة تحذير من الأساطير الرائجة عن راديكالية الثورة، فمتى لم نزح عن الثورة هذا الذائعة فتحنا الباب إلى كوارث جديدة، لأن هذه الأساطير تهمل التوافق الذي كان أساس نجاح الثورة وتفتعل استقطابات ستؤدي بالقطع إلى سيناريوهات لا علاقة لها بذلك الانتقال التوافقي السلمي، ومن هنا فإن عظمة الثورة تنبثق أساساً من بعدها عن الراديكالية.
واتفق الأكاديمي النور حمد مع غيره في أن “ثورة أكتوبر” لم تحقق من شعاراتها التي رفعتها شيئاً يذكر، وجاء النور لمعنى الثورة الخديج بقوله إنها “سرعان ما أجهضت بعد أربعة أشهر من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات العاقبة بعودة الأحزاب التقليدية للحكم على غير توقعات القوى الحديثة التي قامت الثورة على أكتافها“.
ونواصل