التغييرات الجوهرية لمرحلة ما بعد الحرب

زين العابدين صالح عبد الرحمن
إن الحرب سوف تكون فاصلا تاريخيا بين مرحلتين في تاريخ السودان المعاصر، و بين عقليتين؛ الأولى استنفدت ما عندها و أية محاولة للإبقاء عليها سوف تصبح من ضروب السير إلي الخلف لأنها سوف لن تجد من يقف معها غير فئة قليلة عجزت أن تتقبل التغييرات التي طرأت بسبب الحرب، و أيضا لعجزها أن تجاري عملية التغيير.. و الثانية عقلية جديدة تختلف في فكرها و ثقافتها عن الأخرى السابقة، و مدركة أن عملية التغيير لا تتم عبر الصراع الصفري الذي تبنته قوى سياسية قبل الحرب، انما بالحوار السياسي الذي يفضي إلي توافق وطني.. و الحوار هو الأداة الفاعلة لتنشيط العقول التي تحجرت.. و معلوم أيضا أن الأفكار هي أدوات التغيير، و لكنها لا تستطيع أن تقوم بدور التفاعل و الاندماج بين مكونات المجتمع السوداني، و خلق وجدان واحد للشعب، و غرس مفاهيم التربية الوطنية في النشء، لأنها من وظائف الثقافة التي تتعدد أدواتها و مناهجها لتوصيل رسالتها.. و المثقفون المنتجون المؤمنون بالحوار كاداة ناجعة للتواصل بين مكونات المجتمع هم وحدهم القادرين على الإسهام الإيجابي بعد الحرب.. أما حملة شعارات الإءات و تقديم الشروط هؤلاء قوى محنطة لا تستطيع أن تسهم في عملية البناء و النهضة..
أن الأسئلة العديدة التي كانت قد طرحت في مجلتي ” الفجر و النهضة” في ثلاثينيات القرن الماضي، و عجزت النخب السياسية الإجابة عليها، و تم ترحيلها إلي ستينيات القرن الماضي لكي تطرح في الحقل الثقافي بمكوناته المختلفة، هؤلاء لم يتح لهم السياسيين الفرص لكي يصلوا بمشروعهم لنهياته.. أغلقوا في وجههم أدوات الإعلام و التواصل.. أيضا فشلت النخب السياسية الإجابة على تلك الأسئلة في المراحل المختلفة، ربما يرجع ذلك بسبب طول فترة النظم السياسية الشمولية، التي كان وراءها أيضا عقول السياسيين.. العقل الذي بدأ يتراجع أمام مغريات السلطة.. كل هذه التحولات لم تغيير في طريقة تفكير السياسيين.. و بعد ثورة ديسمبر التي انفجرت في شوارع المدن، و ليس من دور الأحزاب، و عندما قبض السياسيون على السلطة ظلت عقولهم معلقة على جدار السلطة ، و لا يملكون أي مشروع سياسي للتغيير الأفضل، و لا يملكون أية أفكار لحل الخلافات في السياسة في الاقتصاد في التعليم في الإعلام.. و أتضح ذلك من كثرة الشعارات التي ملأت السماء و لا تجد لها طريقا لإنزالها في الواقع.. و عندما إدرك العقل السياسي بعجزه أرتمى في أحضان الخرج لكي يفكر بديلا عنه، و يتوسل إليه لكي يصبح له رافعة للسلطة.. و للأسف لا أدري إذا كانوا يعلمون أو لا يعلمون أن الخارج له أجندته الخاصة المرتبطة بمصالحه.. و لا يفكر الخارج إلا لتحقيق أجندته أولا..
أن بعض الكتاب و المثقفين عندما شعروا بأزمة العقل السياسي، و بدلا من نجدته من خلال طرح الأفكار و التصورات التي تساعده على معالجة أزمته.. ذهبوا في طريق التبرير و محاولات خلق أعداء و أوهام يصنعونها بأنفسهم، و من ثم يقتنعون بأنها هي الحقائق التي يجب مواجهتها.. و كل ما تتعقد عليهم طرق الحل يميلون في بث جديد من الفبركات و خلق أعداء من نسيج خيالاتهم.. أن الثقافة السياسية زمن الحرب الباردة ما عادت تفيد الآن، و أفكار الصراع الاجتماعي و الطبقي لم تعد تفيد الثقافة السياسية، و شعارات القوميين التي كانت قبل هزيمة الحرب مع اسرائيل عام 1967م ما عادت مفيدة، كلها ثقافة هزمت في مجتمعاتها قبل أن تهزم خارجها.. أي مجتمع يجب أن تفكر نخبته من داخله، و لا تستجلب أفكار لا تتوافق مع ثقافته و قناعات و عقيدة أهله..
وصلتني رسالة صوتية يتحدث صاحبها عن تسريبات لاجتماع قيادات في الحركة الإسلامية في تركيا قدمت فيها ثلاثة أوراق قال أنها خطيرة جدا.. أهملتها.. و لكن وصلتني ذات الرسالة من عدد من الأخوة و الأصدقاء.. و الغريب في الأمر؛ هم سياسيين من أحزاب أخرى.. أنتم لماذا مشغولين بالأخرين أين اجتماعاتكم و أوراقكم التي تطرحون فيها حلول لمشاكل ما بعد الحرب؟.. رغم أن الشخص الذي يتحدث عن التسريبات لم يقدم دليلا واحدا يؤكد على قوله.. كلها فبركات بدأت تتصاعد الآن بعد انتصارات الجيش، و تقديم السودان شكوى ضد الأمارات في محكمة العدل الدولية.. هؤلاء بدأ ينتابهم الخوف؛ أن الأمارات تتراجع و تنحنى للعاصفة و تهملهم.. أن الذي يعتمد على الخارج دائما يكون في حالة من الهلع و المصير المجهول.. هؤلاء يحاولون يخوفوا صناع القرار في الأمارات، بأن الحركة الإسلامية تنشط و تعقد اجتماعات في تركيا، و مرة ترسل كرتي لكي يلتقي بالبرهان و يضع شروطه.. أو هام الخوف أن تنسحب الأمارات و تجعلهم دون رأعي أو معين بعد ما حرقوا كل سفن عودتهم..
أن التفكير السياسي الذي يؤسس على الأفكار التي فشلت في مواطنها الأصلية، و شعارات الحرب الباردة، و الثوار و الثورية و غيرها لن تكون مفيدة في عملية معالجة المشاكل في المجتمع السوداني بعد الحرب. لابد البحث عن طرق جديدة مخالفة للطرق السابقة التي لم تخلق غير العداوات و شعارات الإقصاء و فرض الشروط على الآخرين.. لابد من جعل الحوار و التفاوض و احترام الرأي الأخر هم الأدوات التي تخلق ثقافة سياسية جديدة، و هي المداخل التي توصل إلي طرق جديدة في التفكير السياسي.. أن القيادات التاريخية ساهمت في تراكم الموروث الثقافي القائم على إملاء الشروط و دعوات الإقصاء هؤلاء سوف يشكلون أكبر عقبة في عملية التحول الديمقراطي الذي يعتمد على التوافق الوطني و دعم أكبر قاعدة اجتماعية له.. لآن طريقة التفكير الجديدة يجب أن تنطلق من المؤسسات السياسية و تبدأ التغيير فيها لإسقاط كل العقليات ذات حمولة الموروث السياسي الذ أدى للفشل طول السنين التي تحكمت فيها نظم شمولية.. نسأل الله حسن البصيرة.