بقلم: عبدالعزيز يعقوب – فلادلفيا
حين نتناول التعذيب وأدوات الإذلال في الحروب، لا يبقى الحديث مجرد إطار نظري، بل ينقلب سريعًا إلى وقائع دامية تكشف جوهر من يحمل السلاح في مواجهة شعب أعزل. وفي السودان اليوم، تبدو الصورة أوضح من أي وقت مضى ومليشيا الدعم السريع مارست، وما زالت تمارس، عنفًا ممنهجًا ضد القرى الوادعة والبيوت الفقيرة، مستهدفة المدنيين العزل والنساء بوجه خاص، وكأن الجسد الاجتماعي ذاته صار ساحة حرب ينبغي تمزيقها وكسر رمزيتها. ما نشهده ليس حوادث متناثرة، بل نمطًا متكرّرًا تؤكده شهادات موثوقة وتقارير ميدانية محلية ودولية.
لقد وثّقت منظمات حقوقية، من بينها العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وقائع اغتصاب جماعي وتعذيب بدني ونفسي، وحالات احتجاز تعسفي، إضافة إلى استخدام النساء والأطفال كأدوات إذلال اجتماعي بالبيع والسخرة، اضافة اللي الحرق المنهجي للمنازل ونهب المساعدات الغذائية. تقارير الأمم المتحدة ذهبت أبعد من ذلك حين رأت أن بعض هذه الأفعال يرقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية. وفي غرب السودان، خصوصًا في دارفور والجنينة، وُصف ما جرى بأنه أقرب إلى حملات تطهير عرقي واسعة النطاق.
وإضفاءً لمزيد من الوضوح على حجم الكارثة، أشار تقرير العفو الدولية الأخير بعنوان “They Raped All of Us” (أبريل ٢٠٢٥) إلى ارتكاب 36 حالة اغتصاب أو اغتصاب جماعي في أربع ولايات بين أبريل ٢٠٢٣ وأكتوبر ٢٠٢٤، شملت فتيات قاصرات، واحتجاز جنسي دام أيامًا، وتعذيب باستخدام أدوات حارقة. أما النزوح، فقد أكدت مفوضية اللاجئين الدولية أن هناك أكثر من 11.3 مليون نازح داخليًا داخل السودان، إضافة إلى حوالي 3.9 ملايين لاجئ عبروا الحدود، نصفهم من الأطفال. كما وثّق مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وفاة 3,384 مدنيًا خلال النصف الأول من ٢٠٢٥ فقط، معظمهم في دارفور وكردفان والخرطوم، نتيجة القصف المباشر على مناطق مكتظة. وفي شمال دارفور، ومع استيلاء الدعم السريع على مخيم زمزم، نزح حوالي 400,000 شخص خلال أيام، فيما بقي نحو 260,000 مدنيّ تحت الحصار في مدينة الفاشر، نصفهم من الأطفال، يعاني كثيرون منهم سوء تغذية حاد. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل شواهد دامغة على أن التعذيب والتجويع والاستهداف المنهجي باتت سياسة ممنهجة ، بغض النظر عن الأرقام نفسها.
1. إن التعذيب هنا يُمارس بوصفه “تعويضًا رمزيًا” عن الخسارة في المعارك على الأرض. فالمليشيا التي رفعت شعار تمثيل المهمّشين سرعان ما وجدت نفسها أمام انهيار سرديتها؛ وحين عجزت عن مواجهة الجبهة العسكرية أو السياسية التي تصفها “الفلول الكيزان ودولة ٥٦ وقبائل الوسط والشمال النيلي في أحيان أخرى”، لجأت إلى إرهاب المدنيين العزّل لتعويض جرحها النرجسي. إذلال الفقراء والنساء ليس سوى محاولة لتعويض فقدان السيطرة وإعادة إنتاج وهم القوة على حساب أضعف الحلقات.
2. الإذلال الجنسي والعنف الموجّه ضد النساء يتجاوز الأثر الفردي إلى ضرب النسيج الاجتماعي بكامله. فالمرأة في المجتمعات السودانية ليست مجرد فرد، بل عمود الخيمة ورمز الاستمرار والأمومة والقيم. حين تُهان علنًا، يُراد للمجتمع كله أن ينكسر، وتُزرع داخله صدمة طويلة الأمد تدفعه نحو النزوح القسري أو الاستسلام. بهذا يصبح العنف الجنسي سلاحًا لتفكيك الروابط الاجتماعية لا مجرد جريمة فردية.
3. كما يتجلّى في هذا السلوك تحوّل واضح من منطق الحرب إلى منطق الغنيمة والنهب. فنهب الإمدادات الغذائية والممتلكات العامة والخاصة ليس عرضًا جانبيًا، بل سياسة مقصودة لضمان بقاء مقاتلين بلا قاعدة اقتصادية عبر تحويل حاجات المدنيين إلى موارد للقتال ورأسمال مسروق. يتحول جسد القرى البسيطة إلى “مخزن حرب” يُستنزف بالقهر والنهب حتى آخر كسرة خبز.
4. إن الإفلات من العقاب هو الوقود الأهم لاستمرار هذه الانتهاكات. فما دامت يد العدالة المحلية غائبة، والدولية مترددة أو انتقائية، وما دام الرصد عاجزًا عن فرض مساءلة فعلية، تزداد جرأة المنفّذين على استباحة كل محرم.
غير أن السؤال الجوهري يبقى حاضرا لماذا يستهدف هذا العنف القرى البعيدة عن الصراع السياسي المباشر، والفقراء والنساء تحديدًا؟
أولاً: لأنهم الأكثر سهولة في الوصول إليهم والأقل قدرة على الدفاع عن أنفسهم، ما يجعل الاعتداء عليهم رسالة بأن منطق السلاح والقوة له السيادة المطلقة.
ثانيًا: لأن أثر الاعتداء على المرأة يتجاوز شخصها إلى عائلتها ومجتمعها، فيحقق الانكسار الجماعي المنشود.
ثالثًا: لأن هذه الفئات تمثل “بؤرة التفريغ النفسي” للمقاتل المهزوم، الذي يفشل في الانتصار على عدوه المتخيَّل فيحوّل غضبه وإحساسه بالعجز إلى عنف ضد من لا يستطيع المقاومة. في علم النفس، هذا السلوك يندرج تحت آليات الإسقاط والإزاحة والانتقام الجماعي.
إن تداعيات هذا النمط من العنف كارثية على المستويات كافة وسيطال حتى من يدّعون الحياد. فهو يفرغ مناطق كاملة من سكانها، ويدفع بموجات نزوح واسعة تعصف بالبنية الاجتماعية وتفتح الباب للمجاعة والمرض. وهو يورث الأجيال القادمة ذاكرة صدمة وإذلال وشعورًا بالغبن، بما يجعل العنف حلقة متوارثة تهدد المستقبل الوطني. كما أنه يعزل السودان أكثر عن العالم، ويُسرّع العقوبات والتدخلات، ويكشف إفلاس المشروع المسلح.
فالحركات والأحزاب التي تمتلك مشروعًا سياسيًا أو وطنيًا لا تمارس القول ولا الفعل العنصري البغيض ضد القبائل أو المكونات الاجتماعية على وجه الإطلاق، ولا يجوز تحميل المجتمعات المحلية وزر جرائم أفراد انتسبوا للمليشيا المتمردة من خلفيات قبلية في الإقليم. بل إن التاريخ القريب يشهد أن بين صفوف هذه المليشيا أفرادًا من قبائل عديدة – مثل الفلاتة والبني هلبة والسلامات والزغاوة وغيرهم – وهؤلاء أنفسهم كانوا، في حالات كثيرة، ضحايا للقتل أو الاضطهاد أو التمييز العنصري، وهو ما تؤكده شهادات منشورة لعناصر من المليشيا في منصات الميديا. ومن ثم فإن المسؤولية فردية وقيادية، وليست جماعية، ولا يجوز تحويل المأساة إلى وصمة تصم قبيلة أو إقليمًا بأسره.
إن سلوك مليشيا الدعم السريع في القرى الهادئة والنائية ليس دليل قوة، بل اعتراف صريح بالهزيمة. ما نراه اليوم هو انهيار السردية التي ادّعت القتال من أجل العدالة والمساواة والمهمشين، وانكشاف حقيقتها كقوة نهب وإذلال. العنف الأعمى لا يصنع شرعية، والتعذيب لا يبني سلطة، بل يختصر المسافة نحو سقوط محتوم. والإصلاح السياسي والاجتماعي في السودان لا يمكن أن يبدأ إلا بوعي عميق بهذه الحقيقة، أن ما يُمارس ضد القرى البسيطة هو الوجه الأخير لإفلاس المليشيا، وأن المستقبل لن يُبنى إلا على قطيعة كاملة مع هذا النموذج من السلوك، وإقامة نظام يعيد الاعتبار للوطن وشعبه، ويجبر الضرر، ويستعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها. مواجهة التعذيب والإذلال ليست مسألة إنسانية فحسب، بل معركة على هوية السودان ذاته، هل يكون السودان وطنًا يتسع لأبنائه جميعًا، أم ساحة مفتوحة لجرائم بلا عقاب؟
لقد كتبت في العام الماضي نصًا عن الانهيار السريع للدعم السريع على خلفية أحداث العنف في قرى الجزيرة، واليوم تكتمل الصورة بما يحدث في كردفان ودارفور من تجويع وحصار وقتل وتشريد. إنها الحلقات المتصلة لانهيار مشروع عنصري عائلي مدعوم بأجندة خارجية وُلد ميتًا، ولن تكون نهايته سوى مزيد من العزلة والانكسار حتى من حواضنه وداعميه الذين يفرون عنه كالفرار من الأجرب.
