التجاني سعيد: الشاعر الهرم والانسان والعالم المتواضع
بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم ابراهيم
جمعني الأخ الأستاذ محمد المهدي بالتجاني سعيد مرات ومرات حين كنا نذهب لمنزله العامر بامدرمان للحديث في معه في الشعر والدين والأدب والمنطق والقصص ذات المغذي في عقود غابره. تحدث لي الأستاذ محمد المهدي عنه كلام الواثق قبل أن أراه أول مرة، بحكم الصداقة والتربية المشتركة معه في أحياء أمدرمان القديمة. في الحقيقة وجدت هذا الرجل أفضل بكثير مما سمعت. وربما بجلساتنا الطويلة والمتعددة معه تعلمت منه كيف يجمع الانسان عدة ملامح وخصال حميدة في رجل واحد. المباديْ (بانعدامها في عالم اليوم) والبساطة والتواضع (في وجود المقدرات الفكرية والعقلية) والقناعة والزهد (في عالم يشوبه التفاخر بالمال والجاه). فالرجل موسوعة كبيرة في كثير من المعارف الدنيوية والاخروية. وفوق ذلك شيق وعذب الكلام لا تمله وتسمع اليه بكل حواسك، كما وصفه الصادق الرضي بأنه ( رجل منفتح انسانياً ومعرفياً بمستوى ثر وعميق، ويترك لك مساحة شاسعة لتختلف او تتفق مع أفكاره ومنهجه الخاص في الحياة والإبداع، بهدوء خلاق ومثمر لا تملك معه الا أن تحترمه على إحترامك). وكل موضوع يتناوله هذا العبقري عباره عن محاضرة تحتاج لتوثيق ومتابعة لصيقه. في الحقيقة أنا لم يبهرني بين السودانين الا هذا الرجل العفيف المتواضع العبقري الموسوعة و الأديب المرحوم الطيب صالح الذي شاهدته فقط بالتلفاز عدة مرات. وفي كلاهما لا ينبغي الجلوس معهم والا وانت بقلم تكتب رؤوس الموضوعات العميقة والثرة لكي لا تناساها من كثرتها وتشعبها وعمقها. هما يجسدان في الحقيقة المقولة (كلما اتسعت الرؤية قلت العباره). فكلاهما يتحدث باقتضاب وأدب ويملكا ناصية اللغة وسلاسة التعبير والكلام وعمق المادة.
التجاني سعيد، لمن لا يعرفونه، (جبل من المعرفة) لكنه كعامة السودانيية العارفين في كل المجالات العلمية والأدبية والفكرية وكما يقول الغربيون keeping a low profile (يحافظون على ملف تعريف شخصي لهم منخفض للغاية، اذا صحت الترجمة)، الا القله التي ارتأت الظهور في ظل الفراغ الذي أحدثه غياب هذه القلة. فهم متواضعون لابعد الحدود وتخالهم فقراء معدمين، ولا يحبون المنابر والظهور وتخالهم أغبياء ليس لديهم ما يقولونه أما يتحدثون فيه، ويفضلون الانزواء (لانهم فهموا كنه الحياة وقصرها وضرورة الاتكاءة مع هداوة البال بعيدا عن الضوضاء والانتشار في وسائل الاعلام التي جمعت الكل بلا تمييز، خاصة في عالم اليوم الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وتصيدت وسائل الاتصال المسموع والمشاهد بكل ماهو غث وقبيح ومؤذي وحرام وابتعدت عنه الاقلام النيره التي تضيف للبشرية والانسانية.
تعلمت من التجاني سعيد أن لكل نجاح مميز مرجعيه . ألا تلاحظون أن أغلب ان لم يكن المبدعين لهم مرجعية في غير محل الابداع تؤثر على مستويات ابداعاتهم بالايجاب. التجاني وكما وصفه عو ض خضر أحمد بأنه (شاعر علي تخوم الفلسفة). فهو متخصص ضليع في الفلسفة الذي أثر على طريقة كلامة وتعاملة مع الأشياء والناس وتحليله العميق للأمور الحياتية وكذلك في منظوره للشعر والأدب. وهو كما وصفه عو ض خضر أحمد بأنه قدم نقله نوعية للقصيدة الدراجه حيث (رفد القصيدة الدارجة بلغه فخيمة كانت عصية عليها). أنظروا كيف يقلص هذا المبدع العبارة ويستخدم الفلسفة في شعره: (من غير ميعاد.. واللقيا أجمل في الحقيقة بلا انتظار) (انتي معاكي لا بندم ولا بقضي العمر تجريح…أصلو العمر شوقا كان وحزنا كان وصبرا كان فسيح وفسيح ….أصلو العمر كان دربا مشيتو كسيح …. وكان غرسا سقيتو بكى وقبضت الريح)، (عيونك زي سحاب الصيف تجافي بلاد وتسقي بلاد ….وزي فرحاً يشيل مني الشقا ويزداد)، (ابدل ريد بعد ريدك….عشان يمكن يكون أوفي). (وزي عيدا غشاني وفات عاد عمّ البلد أعياد….وزي فرح البعيد العاد ….وزي وطناً وكت اشتاقلو برحل ليهو من غير زاد). حتي في عنوان ديوان شعره (قصائد برمائية) تجد الربط بين الشعر والفلسفة (من خلف نوافذنا يصرخ فينا شئ ما…يدعونا نحن الخاصة ان نكتب عن شئ ما…في زمن ما وبشكل ما….شكل لا هو…لا هو…لا هو…إنما هو…وهو….وهو)، (الذي يقول ان البحر هو الارض يعني انه يرى وراء ذلك الكثر…والذي يقول غير ذلك….يعني انه يرى غير ذلك)، (وعند الحديث نخسر الحديث….فالفرح ليس الفرح وانما هذا اسمه…والقمرليس القمر…وانما هذا اسمه والغضب ليس الغضب وانما هذا اسمه…وان كان خير الكلام ما قل ودل…فهاكم النتيجة : هذه الاسماء جميعها ليست الاسماء….وانما هذه اسماؤها).
التجاني سعيد مولع بتحقيق المخطوطات تلك الثقافة الصعبة والمتعددة المعارف (إخراج نصوص المخطوطات القديمة في صورة صحيحة متقَنة، ضبطاً وتشكيلاً، وشرحاً وتعليقاً، وفق أصول متبَعة معروفة مع الاحكام ومعرفة حقيقته والتيقن من). وهو بذلك يربط الماضي بالحاضر. محقق المخطوطات، كالتجاني سعيد، رجلا عارفًا باللُّغة العربية وفي ألفاظها وأساليبها، ذو ثقافة عامة وعالم بأنواع الخطوط وأطوارها التاريخية وبقواعد تحقيق المخطوطات، وأصول نشر الكتب. التجاني ناشر لمجكوعة كبيرة من الكتب ولا زال. يحدثك التجاني في الأدب والشعر ويقص لك القديم والحديث من القصص ذات العبر ويربط بينهما ويحللها. ويحدثك عن التاريخ العربي القديم وحكاوي من عهد الرسول (صلي الله عليه وسلم) ومابعدة فيها من الحكمة والمنطق والذكاء وسرعة البديهة ما يدهشك، حتي تخاله أنه عاشها معهم بنفسه. كما يحدثك في الغناء محللا له ليس فقط كلماته التي يحزقها شعرا ولغة، بل في لزماتها الموسيقية وعبقريتها وتفاصيل ألحانها وسرقات جزئياتها. فالرجل مفتون بلحنيات عثمان حسين حتي قيل أنه قال عنه مازحا (أن هناك شيطانا يلحن له). وكذلك الفنان عثمان الشفيع والشاعر احمد عوض الكريم القرشي وهما يسخدما لغة أهلنا الحنان بكردفان في الشعر الغنائي دون أن يدرك ذلك الناس، كما قال لي. ففي أغنية القطار المرا يقول فيها (آه خلاص جنيتا وفي المحطه بكيتا …يا القطار تدشدش يا الشلتا مريودي). ألا تلاحضون المد في جنيا وبكيتا. فهي تماثل عامية لهجة كردفان اذ يقولون مشيتا بدلا عن مشيت وجيتا بدلا عن جيت وكذلك جنيت وبكيت. عشت في كردفان وعرفت بعضا من ثقافتها و سمعت بالاغنية مرات ومرات ولكنني لم ألاحظ ماقلته. لله درك يأخي التجاني فأنت قوي الملاحظة عيني عليك باردة وحفظك الله.
هذا قليل من كثير أحتفظ بالباقي لنفسي. فلا أريد أن أقصم ظهر من أحببت بعنف بكثرة الثناء والمدح. وهذه الكلمات المختضبة والبسيطة في حق هذا الرجل لا تمثل وصفا مسهبا لشخصيته. فالرجل أكبر من ذلك بكثير، ولكنني لا أملك ناصة اللغه للحديث عنه بالشكل الذي يليق به. أتمني لك دوام الصحة والعافية العزيز الأخ التجاني سعيد والأخ الصديق الوفي الأستاذ محمد المهدي الذي جمعني بك.