البرهان ولغة العالم

بقلم: خالد محمد أحمد

أقامت المقالة، التي نشرها الفريق أول عبد الفتاح البرهان في صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، الدنيا ولم تقعِدها بين مادحٍ ومنتقد، والسبب أنها خطوة غير مسبوقة في تقاليد الخطاب السوداني على المستوى الرئاسي، وخروج على تقاليد قادتنا العسكريين.

ما فعله البرهان ليس بدعًا، بل وسيلة يلجأ إليها قادة العالم حين يريدون إيصال رسائل محدَّدة لجمهور بعينه وبصوت خالٍ من الضجيج. الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، على سبيل المثال، نشر عددًا من مقالات الرأي (Op-Eds) أثناء وجوده في المنصب وبعده، وشارك في مقالات مشتركة مع ديفيد كاميرون، ومع كاميرون ونيكولا ساركوزي بشأن الأزمة الليبية، ومع أنغيلا ميركل عن العلاقات عبر الأطلسي.

يلجأ القادة لهذا الأسلوب رغم تعدُّد منابرهم، لأن هذه المقالات تمنحهم سيطرة كاملة على الرسالة بعيدًا عن مقاطعات الصحفيين، والأسئلة المحرجة، والتحريف والتأويلات المعتادة في التغطيات الإعلامية. كما أنها تظلّ وثيقة دائمة متاحة للاستشهاد والرجوع، خلافًا للتصريحات التي تتبخَّر بعد ساعات بفعل طغيان المستجدَّات. وغالبًا ما تُستخدَم هذه المقالات في اللحظات المفصليَّة عند محاولة تغيير الصورة الذهنيَّة، أو تسويق سياسة جديدة، أو كسب تأييد خارجي في قضايا حساسة.

بالنظر إلى مقالة البرهان، فقد منحته مساحة سرديَّة واسعة لصياغة روايته وتأطير خصومه، وقدَّمته بصورة أقرب إلى السياسي المحترف منه إلى القائد العسكري؛ سياسي يحاول إعادة تعريف الصراع أمام واشنطن، ويقدّم القوات المسلحة السودانية بوصفها الضامن للاستقرار ومنع الانهيار الإقليمي. ومن الواضح أن اللغة والمصطلحات ونبرة الخطاب تشير إلى أن المقالة موجَّهة إلى دوائر صنع القرار الأميركي أكثر من كونها رسالة للجمهور المحلي.

ولا يمكن إغفال أن نشر المقالة في صحيفة كبرى مغلقة، مثل وول ستريت جورنال، يشي بوجود دور خارجي في الدفع نحو هذه الخطوة، وربما كان للسعودية، التي تقود مبادرة سياسية وتحاول استعادة زمام المبادرة في الملف السوداني، أو مستشارين غربيين دورٌ في اقتراحها وصياغتها وتسهيل نشرها.

وبصرف النظر عن كلّ هذا، ورغم أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، فإن الخطوة تشكّل تحوُّلًا في تعامل الرئاسة السودانية مع الإعلام الدولي بعيدًا عن الخطاب الصدامي الذي اشتُهِر به القادة السودانيون، وخاصةً العسكر. كما تمثّل المقالة انعطافةً من أسلوبٍ لطالما خلط القادة السودانيون فيه بين الخطاب الداخلي والخارجي، إذ كان خطاب الخارج امتدادًا لصخب الداخل المُثقل بالعنجهيَّة التي لا تصلح للمنابر الدولية. وعلى مَن ينتقدون البرهان على أنه يستجدي الأميركيين بهذه المقالة أن يتذكَّروا ما حاق بهم جرَّاء أسلوب (صرف البركاوي)، وخطاب (تحت جزمتي) و(يبلّوها ويشربوا مويتها).

ومهما يكن من انتقاداتٍ، فإن المقالة تتسق مع طبيعة السرديَّات الرصينة، وتنسجم مع المزاج السياسي الأميركي الذي يستجيب للخطاب الذي يربط الاستقرار الإقليمي ومنع الفوضى بالمصالح الأميركية.

Exit mobile version