البحث عن طبقة وسطي (٢-٣)

علي عسكوري
تعرف الطبقة الوسطى على انها تتكون في غالبها العام من المهنيين (اطباء، مهندسين، محامين، كبار قادة الخدمة العامة وكبار ضباط الاجهزة الامنية والعسكرية، واساتذة الجامعات، وصغار رجال الاعمال الخ).
تلعب هذه الطبقة دورا مفصليا في المجتمعات الرأسمالية لانها تعتبر رمانة استقرارها، والبوصلة التى تحدد اتجاهات المجتمع وحركتها وميولها وهي التى تحرك ماكنزمات الصراع الاجتماعي السلمى الداخلي، وهي موطن كل التغييرات، فباستقرارها وتماسكها يستقر المجتمع، وبتأزمها يتأزم المجتمع .
لا توجد طبقة الوسطي في النظام الشيوعي او الاشتراكى لأن الفكر الشيوعي يقوم على طبقتين: الطبقة البرجوازية (اصحاب المصانع، ملاك الاراضي واصحاب رؤوس الاموال الذين يستأجرون العمال)، و الطبقة الثانية هى طبقة البرولوتاريا، او طبقة العمال بصورة عامة. لذلك لا يعترف الفكر الشيوعي بالطبقة الوسطى ويسقطها من سردياته، بل يعتقد ان افرادها – ان وجدوا- يسعون للالتحاق بالطبقة البرجوازية (لديهم تطلعات برجوازية كما يقال). ومع رفض هذه الطبقة، يعتمد الفكر الشيوعي في التغيير السياسي على طبقة البلورتاريا ويعتقد انها ستسيطر يوما ما وتطيح بالطبقة البرجوازية من خلال الثورة، هكذا ينظر الفكر الماركسي للصراع الاجتماعي، وينتهي الصراع الاجتماعي او الطبقي باكتمال سيطرة البرولوتاريا على الدولة وتأسيس سلطتها.
كانت هذه النظرة واحدة من النقاط الجوهرية في الخلاف بين تروتسكي ولينيين. فبينما اعتقد ليينين ان البرولوتاريا الروسية هي من سيقود الثورة في روسيا، وان لامكان لصغار البرجوازيين من “المناشفة” وان التغيير يجب ان يكون راديكاليا، رأي تروتسكي ان الطبقة الوسطى من “المناشفة” يمكن ان تقود الثورة وتكون جزءا من التغيير المتدرج. وعلى كل، في الخلاف المعروف الذى قاد للانقسام، تعمقت الخلافات بين المناشفة و البلاشفة وتولى ستالين حسم الخلاف بعد رحيل لينيين، واكرع في مطاردة المناشفة ونفيهم وسحقهم و ملاحقتهم حول العالم حتى اغتال تروتسكى في المكسيك عام ١٩٤٠.
مايهمنا في هذا الامر هو دور الطبقة الوسطى في التغيير السياسي في اطار مجتمع رأسمالى، وان كان- كما سبقت الاشارة- يصعب و صف المجتمع السودانى بمجتمع رأسمالى نتيجة للخلط بين عدة مفاهيم اقتصادية افضت لربكة اقتصادية اثرت بصورة مباشرة على ازدهار الطبقة الوسطى. ومع الربكة التى ضربت الطبقة الوسطى نتيجة لربكة السياسات الاقتصادية، اضمحلت الطبقة الوسطى وتفككت اواصرها ولذلك حدث تكلس تام في المجتمع وافتقد حيويته، وخرج الصراع من صراع سلمي الى صراع عنيف، لأن الحاضنة ( الطبقة الوسطي) التى كان يتوجب عليها امتصاص او معالجة التناقضات او اتاحة الفرص للقدرات تم ضربها وشلها وانسدت طرق الوصول اليها والعمل من خلال آلياتها المفتوحة.
اشرنا الى اهمية الطبقة الوسطى في المجتمع الرأسمالى وقلنا انها هي الرمانة التى تضبط تماسك المجتمع وهي بمثابة صانع الالعاب في فرق كرة القدم. فهى التى تنتج الافكار الجديدة، وتثري الاداب والفنون وتنتج المبدعين من كل صنف، وتوجه الرأي العام وتعكس حيوية المجتمع وتغذى قنوات الحياة فيه من كل نوع، وعلى تماسكها تستند الدولة في استقرارها وبقائها. ولذلك يمكن قياس تماسك عضد المجتمع ومن ثم الدولة من خلالها. فكلما توطد تماسكها وزادت حيويتها كلما زاد استقرار المجتمع وازدهار حياته في كل اوجهها، و العكس صحيح.
اذن فالتركيز على تماسك هذه الطبقة وازدهارها في حقيقته تركيز على ازدهار المجتمع وتقوية لحمته ومن ثم قوة الدولة وتماسكها. نعلم ان بقاء اى دولة يعتمد على بقاء المجتمع، فلا وجود لدولة دون مجتمع
ضربات متتالية
ازدهرت اول طبقة وسطى في السودان تحت الحكم البريطانى، تقريبا في ثلاثينيات القرن الماضي، وتلك كانت الفترة التى اشتهرت بما يعرف (بأغانيء الحقيبة)، واغانى الحقيبة تنم عن مجتمع مستقر ومزدهر يعيش في قدر جيد من البهجة والانشراح، حين اطلق المبدعون خيالهم في اتجاهات عدة. يلاحظ ان المجتمع السودانى لم ينتج مطلقا اى قدر من الابداع كما وكيفا مثل ما انتج ذلك الجيل. ومن الخطأ الاعتقاد ان انتاج ذلك الكم من الغناء والطرب بكل ما فيه من عبقرية ومعان، كان صدفة، بل جاء نتيجة لوجود مجتمع مستقر ومزدهر!
استمرت تلك الطبقة حية و متماسكة حتى انقلاب العقيد جعفر نميري العام ١٩٦٩، لأن انقلاب الفريق عبود لم يكسر مقوماتها ولم يحدث هزة اجتماعية تقود لخلخلة تماسكها، بل سار على نهج اقتصادى ثابت وواصل في ما كان قائما اصلا.
من ارعن او (اصنج) السياسات التى طبقها نظام النميري هى سياسة الطرد من الخدمة ثم تبع ذلك بما عرف بسياسة التأميم حين صودرت املاك كثيرة تعود في اغلبها للطبقة الوسطي، اذ لا يوجد في السودان طبقة برجوازية بالمعنى المفهوم للبرجوازية الذى يرد في ادبيات اليسار.
مثلت سياسة التأميم والمصادرة والطرد من الخدمة ضربة قوية للطبقة، كما وجهت ضربة للاقتصاد لم يخرج منها حتى اليوم وزرعت شكوكا عميقة عند المستثمرين واصحاب رؤوس الاموال فهربت الكثير من الراسمايل خارج البلاد الامر الذى اضعف نمو الطبقة مع تناقص واضمحلال الفرص في الاقتصاد.
وقبل ان تستعيد الطبقة تجميع اطرافها، ظهرت فرص الاغتراب الى الخليج والسعودية بعد حرب اكتوبر ١٩٧٣. كان اغلب المهاجرين من مكوناتها الاجتماعية فتركوا فراغا شاغرا اضعف تماسك الطبقة واستمر نزيف الهجرة بوتائر اعلى على حساب نموها وازدهارها.
لم يكتف النميري بضربة مطلع السبعينات للطبقة الوسطي، بل وجه بعد حوالى العقد من الزمان من ضربته الاولي ضربة اخري اعنف من سابقتها، فقام بين عشية وضحاها ودون مقدمات او دراسة باعلان السودان دولة اسلامية (مرة واحدة) هكذا…! اربكت الخطوة المفاجئة وغير المدروسة كامل النشاط الاقتصادي وفقد العديدون وظائفهم بعد خروج رسامايل ضخمة هربا من الفوضي المالية والاقتصادية التى تبعت تلك القرارات المفاجئة و غير المدروسة. يضاف الى ذلك ان تلك القرارات المتعجلة افضت الى ازدياد معدلات الهجرة بعد توقف تدفق الاستثمارات الخارجية وانهيار قيمة العملة الوطنية الذي تبعها. وكنتيجة لتلك القرارات القرواسطوية ضمرت الطبقة داخليا ومات الابداع داخلها مع تصاعد حملات القمع والهوس الديني ومحاكم التفتيش التى اقامها النظام، كما تواصل نزيف مكونات الطبقة الوسطي بارتفاع معدلات الهجرة للخارج هربا من تدهور مستوى المعيشة الذى تسببت فيه تلك الهرجلة الاقتصادية التى اطلقها النميري.
اربكت قرارات نميري عملاء البنوك وتسببت في فوضي في التعاقدات القائمة مع المصارف نتيجة لتغيير النظام المصرفى دون سابق انذار. وهكذا تكالبت عدة عوامل نتيجة لقرارات نميري المفاجأة التى ضربت الطبقة الوسطي في مقتل و دخلت غرفة الانعاش من وقتها ولم تخرج حتى اليوم. !
هذه الارض لتا



