البحث عن الاِجماع المستحيل

محجوب فضل بدري
هل السودان بلد الغرائب؟
لنحكي القصة التي أدهشت السفير الأمريكي فى الخرطوم كان ذلك بداية السبعينات، عندما أصيب نجل السفير الأمريكي بكسرٍ أثناء ممارسته الرياضة فنُقل اِلىٰ القسم الجنوبى بمستشفى الخرطوم الـ South block أرقى أقسام المستشفى فى بلادنا بأسرها، ولبث فيه لأيام قبل أن يُنقل إلى الخارج، وذهب السفير لإدارة المستشفى لتسديد الفاتورة، فقيل له إنه ليست هناك فاتورة فهذه الخدمة مجانية، فرفع الخواجة حاجبيه دهشةً، وقال أنتم إذاً دولة غنية جداً A very rich country
ولا تخفى السخرية فى هذه العبارة بالطبع!! لكن أهل السودان اعتادوا على تلقي الكثير من الخدمات مجاناً، فالماء كان بالمجان، والتعليم بالمجان والعلاج بالمجان، والدواء بالمجان، فلا تشترى اِلَّا الزجاجة الفارغة، والتطعيم وصحة البيئة ومحاربة الآفات المنزلية والزراعية بالمجان، هل تذكرون حملات الجمكسين ومكافحة الجراد الصحراوي والسفر بالسكة الحديد أو بالطائرة أو بالبواخر النيلية، فقد كان بالمجان لفئاتٍ كثيرة، حتى قيل لو فاتك الميري اِتمرغ فى ترابو، وقالوا المجان كَتِّر مِنُّو ولو يَضرَّك!! فالحكومة عندهم قادرة وإيدها لاحقة، وعندما أراد نظام مايو حضّ المجتمع على الاسهام فى التنمية و الإعمار أطلق عليه اسم “العون الذاتى”، فقال أدروب متذمراً، العون الذاتي عِرِفْنَا، عون الشريف ده شنو !!
لكن ثورة الاِنقاذ جابتها على بلاطة، فقد اعتمدت سياسية السوق والتحرير الاقتصادي فلا يأتي شئٌ بالمجان، وحتى الضرائب، نبع الايرادات الحكومية لا تجني منه معشاره بسبب التهرب الضريبي،أو الفساد فى تحصيلها، وهناك إحصائية مريعة، ففي الخرطوم وحدها كانت هناك حوالى 44 ألف شركة ذات سجل ضريبى، تدفع منها سبع أو ثمان شركات فقط نسبة تقارب 90% من جملة التحصيل الضريبى!!
هذه المفارقات فى المجال الاقتصادي تنسحب على المجال السياسي ففي مجال الانتخابات العامة، يبذل المرشحون وعوداً براقة وخيالية، هو يعلم وناخبوه يعلمون اِنها محض هُراء، مثل الطُرفة التى نُسبت للمرحوم هاشم بامكار الذى وعد الناخبين في شرق السودان ببناء كبري على البحر الأحمر، ليكون السفر للحج بالبسكليت !!
وكان الناخبون يكتفون بتلقي “الإشارة” من أحد السيدين ليصوتوا لمرشحه الذي لم يسمعوا به ولم يسمع بهم.
والآن عبثاً يحاول السيد كامل إدريس رئيس الوزراء اِرضاء الكل والحصول على اِجماع لاختياره، فى بلد الغرائب المسمى السودان، مهما أوتي من حصافة وحذر، ومن سعة صدر، و (طولة بال) فان اختياراته المتباعدة فى توقيتها إذ أنه يُعيِّن الوزراء بالقطاعى، لن تحوز الرضاء الكامل حتى قال ظريف المدينة، د.كامل زي أمينة صندوق الخَتَّة، كل أسبوع أو شهر لي واحدة!!
وبتسمية د.جبريل ابراهيم محمد وزيراً للمالية يكون السيد رئيس الوزراء قد قطع شوطاً مقدراً فى إكمال شكل الوزارة، فبرغم أن د.جبريل يعاني الأمرين فى تسيير أمر الاقتصاد فى بلدٍ ممزقٍ بالحرب التي هدمت معظم بنيته التحتية، وتعصف الخلافات السياسية والجهوية، بكيان الدولة المثخن بالجراح والمواطن الذى يطحنه الغلاء، وانعدام بعض الضروريات، وضعف الخدمات، مما يجعل القبول بمنصب وزير المالية يتطلب شجاعة استثنائية وتضحية كبيرة فى بلد ما زال معظم مواطنيه ينظرون للحكومة كبقرة حلوب (لا تغرز) !!
جاء قروي إلى المدينة فاشترى له مرافقه سندويش، فنظر للرغيفة من الخارج وسأل: دي العيشة، الملاح يين؟ فقال له: فى لُبَّها.
فنظر فى باطن الرغيفة فوجدها محشوَّة، فقال بدهشة: سبحان الله الحكومة ماغلبها شي!!
وبين حيرة الدبلوماسي في أن هناك خدمات بلا مقابل، ودهشة القروي بأن يكون هناك طعام بلا ماعون، تكمن حيرة د.كامل في العثور على وزير بلا انتماء سياسي أو جهوي !!
توكل يا دكتور وكمل شكل حكومتك فارضاء الناس غاية لا تدرك،وقلمك موجود مثل ما وقعت به قرار التعيين يمكن أن توقع به قرار الاعفاء.
نقلا عن “المحقق”



