الانتصارات العسكرية والانكسارات السياسية
عادل الباز
بعد أن تسارعت انتصارات القوات المسلحة وتوالت وثباتها في كل المحاور، بدا واضحًا أن الأوضاع المتداعية التي تعيشها الميليشيا على كافة الجبهات سرعت من انهيارها من الداخل، كما اشتد الحصار عليها من الخارج كما نشهد الآن تفكك جبهة حلفائها من أحزاب “تقدم” وداعميها الإقليميين.
لننظر أولًا إلى ما يجري في جبهة “تقدم”، الحليف الرئيسي للميليشيا، والتي بدأ تصدعها يأخذ منحنى خطيرًا، خاصة بعد أن قررت مجموعة من أعضائها إعلان حكومة منفى/ سلام في المناطق التي يسيطر عليها الدعم السريع. وكان الاقتراح قد طُرح منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ أوائل العام الماضي. وتفجرت الأوضاع بعد إعادة طرحه في اجتماعات كمبالا في نهاية نفس العام، وكاد الأمر أن ينسف الاجتماعات. الآن، وفي الوقت الذي تضع فيه مجموعة من أبناء دارفور وبعض الانتهازيين من أبناء الشمال ومجموعة من الحركات المسلحة اللمسات الأخيرة لإعلان تلك الحكومة، أوقفت قوات الدعم السريع مشاوراتها مع المجموعات التي تسعى لتشكيل حكومة في المناطق التابعة لها، بحسب ما ورد في “سودان تربيون” أول أمس. في حين أعلن التجمع الاتحادي، على لسان بابكر فيصل، أن إعلان حكومة منفى/ سلام يعني أن “تقدم” لن تبقى موحدة!!. ويرى آخرون في “تقدم” أن إعلان حكومة يعني تقسيم السودان، ولن يكون مفيدًا في ظل الأوضاع الحالية التي تشهدها مسارح العمليات من تراجع للميليشيا. كل ذلك يدل على أن الجبهة السياسية، التي جرى بناؤها على مدى عامين لدعم الميليشيا، تشهد انهيارًا واضحًا. وتزداد هذه الانهيارات كلما تقدم الجيش في مسارح العمليات وحقق مزيدًا من الانتصارات.
على المستوى الداخلي، داخل أروقة عصابات الميليشيا، نشهد تداعيات شتى. أولها الانسحابات المتكررة في ميادين القتال، تلك التي تقول عنها الميليشيا إنها “تكتيكية”، لكنها تحولت إلى إحدى ثوابت القتال عندها. الآن تحولت حرب الميليشيا إلى حرب قناصين، وهؤلاء وجد الجيش الترياق المضاد لهم. الميليشيا الآن محاصرة بالهزائم، ونقص الإمدادات والذخائر، ولم يتبقَ شيء يمكن شفشفته. أضف إلى ذلك كراهية الشعب المتصاعدة للميليشيات ومرتزقتها وداعميها.كل ذلك أدى إلى تراجع الروح المعنوية لمقاتليها، وانعكس ذلك في المجموعات المتزايدة التي تستسلم أو تهرب من ميادين القتال. ويمكن رصد يأس حاضنات التمرد من أن يحقق لهم التمرد أي انتصار. بدأ زعماء تلك المحاضن يشككون حتى في مقدرة المليشيا حتى على تأمين مناطقهم، وانحسرت معسكرات التجنيد، كما تراجع أبناء القبائل الحاضنة عن فزع الميليشيا في معاركها أو الانضمام إليها.
خارجيًا، بدا واضحًا الحصار الذي ترزح تحته الميليشيا، خاصة بعد إعلان الولايات المتحدة أن الميليشيا ارتكبت إبادة جماعية. بعد هذا الإعلان، بدأت الدول تتخلى عن استقبال قادة الميليشيا، وخاصة الدول التي كانت داعمة للتمرد. وقد أعلن الكفيل الرئيسي للميليشيا أنه توقف عن دعمها، في رسالة موجهة للإدارة الأمريكية السابقة (إدارة بايدن). لكن تلك الإدارة، في آخر أيامها، أرسلت رسالة للكونغرس تُعلن فيها كذب الكفيل، وتؤكد أنه مستمر في دعم الميليشيا المتهمة بالإبادة. ما يهم هو أن الكفيل بدأ يحسب خسائره الناتجة عن علاقته بالميليشيا.
أمس الأول، قال وزير الخارجية السوداني علي يوسف إن كينيا غيّرت موقفها من السودان، بل وتمت دعوة الرئيس روتو نفسه إلى بورتسودان!!. الحقيقة أن السبب الوحيد والواضح هو أن كينيا أفاقت من أوهامها، التي كانت تهيئ لها أن الميليشيا ستنتصر على الجيش السوداني، إضافة إلى توقف الرشاوى التي يحصل عليها روتو من الميليشيا.على العموم، من الجيد أن يتطور الموقف الكيني باتجاه إيجابي، ولكن الحذر واجب؛ إذ لا يمكن الوثوق بروتو، مثله مثل كاكا. فأسواق دقلو لا تزال تعمل في مجال شراء المرتزقة، سواء كانوا من الرؤساء أو وضعاء الأحزاب العميلة.
إلى ذلك، ظهر فجأة خليفة حفتر ببيان طويل عريض يعلن فيه براءته من دعم الميليشيا، بل ويتفضل بإعلان استعداده للتوسط في حل المشكلة السودانية! كذب هذا السمسار الدجال ليس بحاجة إلى دليل؛ فارتال السيارات التي تحتشد الآن في الصحارى جوار ليبيا لم تهبط من السماء في وادي هور، إنما عبرت من ليبيا وهي مدججة بكافة أنواع الأسلحة. ثم إن حفتر لم يتكرم بإعلانه هذا إلا بعد أن رأى انهيار الميليشيا وهزائمها المتتابعة. وهو يعرف تمامًا أنه إذا ما تفرغ السودان من دحر الميليشيا، فسيكون لذلك أثر كبير عليه.
الكل الآن يتحسس موقعه، ويبدأ خطوات التراجع عن دعم الميليشيات. هذه خطوات جيدة، لكن يجب التعامل معها بحذر؛ فما دام الكفيل لا يزال قادرًا على دفع الرشى، فلا يمكن ضمان الثبات على المواقف، خاصة من قبل دول ورؤساء لا تعصمهم أي قيم أو أخوة جوار.
الآن، تفكك معسكر التحالفات السياسية الداخلية، وتراجع معسكر التحالفات الخارجية. تداعت الميليشيا من الداخل، ولم يبقَ لها إلا أن تلملم مرتزقتها وتغادر أرضنا وسمائنا.