مهند عوض محمود
لم تعد الشائعات في زمن الحروب ترفاً اجتماعياً؛ بل تحولت إلى أدواتٍ ذات أثر استراتيجي موازٍ للعمليات العسكرية. في الأدبيات الاستخباراتية تُعرَّف «الاشاعة المنتظمة» بأنها معلومة غير مثبتة تُصمَّم وتُدار بوعي كامل من جهة فاعلة للوصول إلى هدف محدد؛ الهدف قد يكون زعزعة الثقة في القيادة؛ شقّ النسيج المجتمعي؛ تشويه السمعة الوطنية؛ أو تهيئة المجال لتدخلات خارجية. هذا التحديد العلمي يستند إلى دراسات السلوك الجمعي والحرب النفسية؛ ويتقاطع مع منظومة «المعلومات المضللة» و«المعلومات المغرضة» من حيث الهدف المقصود والعمليات المنظمة التي تُطلق الشائعة وتتابع دورة حياتها.
الخطر ليس جديداً في التاريخ الإسلامي؛ فقد شكّلت حادثة الإفك مثالاً تأسيسياً لطبيعة الشائعة المنظمة وكيفية توظيفها لإحداث بلبلة داخل المجتمع المدني الأول؛ حتى نزل القرآن بآيات في سورة النور تفضح آثار التشهير وتكشف أن ضرب الثقة بصفّ القيادة هو ضرب لصلابة الجماعة كلها. يتكرّر المشهد ذاته اليوم بوسائل عصرية أكثر قدرة على التسرّب والتكاثر؛ لكنه يحمل الجوهر نفسه: الطعن في الرموز؛ التشكيك في القرار؛ وضخّ الفوضى المعلوماتية.
عملية تركيب الشائعة المنتظمة تخضع لهندسة دقيقة؛ تبدأ بتحديد هدفٍ استراتيجي؛ ثم صياغة رسالة تتوافق مع القابلية النفسية للجمهور؛ يليها دعم المحتوى بصور أو وثائق مفبركة أو مقاطع مجتزأة من سياقها؛ ثم إطلاقها عبر قنوات متوازية تشمل مؤثرين؛ غرف مراسلة مغلقة؛ ومنصات إعلامية تعمل بتوجيه أو تُستدرج إلى خدمة الهدف؛ قبل الانتقال إلى مرحلة التكرار الممنهج لضمان رسوخ الشكوك في الوعي العام.
في قلب هذه الدورة يبرز «المغفل النافع»؛ وهو المستخدم الذي يتبنى الرسالة وينشرها دون تحقق؛ منساقاً برغبة المشاركة؛ أو البحث عن السبق؛ أو خوفاً من ضياع معلومة تبدو عاجلة. هذا الطرف غير المتخصص هو الجسر الذي تعبر عليه الشائعة المنظمة من مرحلة التخطيط المحترف إلى مرحلة الانتشار المجتمعي الواسع؛ تماماً كما يحمل الكائن العادي فيروساً خطيراً دون وعي بحقيقته.
تشهد الساحة السودانية اليوم تطبيقاً حياً لديناميكيات الشائعة المنتظمة؛ خصوصاً في ظل الحرب ضد المليشيا المتمردة التي جعلت من الفضاء الرقمي ميداناً رئيسياً للقتال. برزت حملات شائعات تستهدف تقويض الثقة بالقوات المسلحة؛ ربطها باتجاهات سياسية معينة؛ وتضخيم أي فراغ معلوماتي لخلق حالة من الالتباس لدى الرأي العام. المثال الأحدث ما دار حول تفاوضٍ مزعوم بين وفدٍ عسكري سوداني وعناصر «الدعم السريع» في الولايات المتحدة؛ ورغم صدور بيانات رسمية أكدت أن الزيارة ذات طبيعة دبلوماسية ثنائية؛ استمرت موجات التشكيك بفعل تفعيل شبكات المغفل النافع؛ في دورة نموذجية للشائعة المنظمة من الإطلاق إلى النفي إلى التشكيك في النفي نفسه.
النتائج بعيدة المدى لهذه الحرب المعلوماتية تتجسد في تآكل الثقة؛ وهو رأس مال المجتمع في أي ظرفٍ وطني. كلما زادت الحيرة لدى الجمهور؛ تضاءلت فعالية الخطاب الرسمي؛ واتسع نطاق قوة الخصم دون أن يتحرك خطوة في الميدان. الهزيمة قد تبدأ في الإدراك قبل أن تقع على الأرض؛ والانتصار يتطلب تحصيناً معرفياً مساوياً لصلابة الدفاع العسكري.
تتحمل المؤسسات الإعلامية الرسمية مسؤولية استعادة زمام المبادرة؛ عبر منظومة دفاع معلوماتي متكاملة تعتمد «الشفافية المركّزة» في إعلان الوقائع المهمة؛ وتسارع التوضيح قبل تفريخ التأويلات؛ وتُنشئ غرف عمليات معلوماتية تضم الجهات السيادية ذات الصلة لضمان رسائل موحدة وسريعة؛ كما يجب إطلاق حملات تثقيفية واسعة لترسيخ ثقافة التحقق قبل النشر؛ وملاحقة الجهات التي تتعمّد صناعة الشائعات بدوافع عدائية.
تبقى المعركة في جوهرها معركة وعي؛ تتطلب علاقة صحية بين المواطن ومنصاته الوطنية. كل مشاركة لشائعة دون تحقق قد تكون طعنة في الظهر الوطني. إن كسب الجولة المعلوماتية ليس خياراً ترفياً؛ بل شرطاً ضرورياً لفرض ميزان القوة في حربٍ تتقاطع فيها الساحات الترابية مع ساحات العقول.
