رأي

الإنسان في محاكاة البيات الشتوي!

الدكتور الخضر هارون
لم نعش بفضل الله في حياتنا حقبة تيه طويلة أو قصيرة منذ صبانا الباكر لكن .أصابتنا وتصيبنا، وتلك سجية في البشر غير محدثة، التفاتات هنا وهناك بسبب حماسة زائدة وهياج هرمونات جديدة في مرحلة انتقال في العمر يصاحبها فهم مثالي متعجل للحياة لا يدرك معها أنها ليست باللونين الأبيض والأسود فقط بل هي متعددة الألوان. يحدث جراء ذلك الفهم الفطير استعجال للنتائج قفزا فوق المراحل و الحواجز الطبيعية ورغبة عجلى لاقتناص الفرص والسوانح وبعض إشفاق حدسي في المنعطفات الحرجة حيث تقع جل الحوادث المدلهمة المدمرة والتي تتبعها الخيبات وتسير في ركابها الحسرات المفضية للقعود الدائم واللا فعل!
 ليس عيباً أن يتوه الإنسان توهان إبراهيم عليه السلام ثم تنتهي به رحلة التيه إلي طمأنينة صلبة راسخة رسوخ الجبال الرواسي، والتي لم تصرف الشيخ الوقور أبو الأنبياء أن يشرع فعلا في ذبح فلذة كبده بيده في أقسى امتحان يخطر علي بال بشر، لكني أحدّث عن نفسي التي بين جنبي وفي كلٍ خير. ذلك لا يعني ألا تغشانا سويعات قنوط تُعض بسببها الأنامل! كيف لا ونحن نتغلب بين الطين ونفحة السماء اللتين كثيراً ما تشتجران في دواخلنا المرهفة كما تشاجرت في دواخل الأنبياء المعصومين: تأمل قول الله تعالي (فلعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) أي قاتلها ويونس (وذا النون إذ ذهب مغاضباً) ويذكرهم خالقهم بأن الذي يجدونه من طبيعة خلقهم ، تنافر المادة والروح !
تأملت ظاهرة البيات الشتوي hibernation وهي ظاهرة عجيبة تتوقف فيها حركة الحياة لدي سائر الحيوانات ما عدا الإنسان الذي أوكل الله له مهمة إعمار الأرض فمهمته لا تحتمل العطلات وفي الأماكن الباردة قرب القطبيين الشمالي والجنوبي  والأقرب فالأقرب منهما في شرق أوراسيا وأمريكا الشمالية وغرب أوروبا وكذلك في الجنوب القصي من نيوزيلندا وشيلي وجنوب الأرجنتين تكتسي الأرض بالثلوج وتتجمد مصادر المياه فتقل مصادر الغذاء . بينما في غير تلك الأوقات تمرح الظباء والأرانب والسناجيب والدببة وغيرها في كل الأنحاء ويحرم صيدها إلا في أوقات بعينها. ثم تختفي إذا حل الشتاء فتعجب أنت وأنا أين ذهبت وتذهب؟ فيأتيك الجواب من ظاهرة البيات الشتوي: تخلد تلك الكائنات الحية للراحة الطويلة فتخفّض درجات الحرارة في أجسادها بدرجة مذهلة وتقلل ضربات قلوبها وتنفسها للحد الأدني لحفظ الطاقة فتتغذى مما ادخرته من شحوم لفترات طويلة دون تناول أي غذاء لضمان البقاء علي ضحضاح من الحياة، يا سبحان الله! تجهد هذه الحيوانات في تخزين الشحوم بالأكل الكثير خلال فصل الخريف قبيل الشتاء وبعضها تجتهد في الجمع والتخزين كالسناجيب ثم تتخذ من الكهوف الدافئة والجحور العميقة أماكن تلجأ للعيش فيها حتي ينجلي الشتاء. بعضها تعتريه صحوات يخرج فيها للصيد ثم يعود للإختباء. وتتراوح فترات البيات بين الحيوانات. يقابل ذلك في المناطق الحارة والصحاري  السبات الصيفي estivation حيث تحتجب الحيوانات كالزواحف  وصلال الفلا وبعض الحشرات طوال فترة الحر الشديد بذات طريقة حيوانات المناطق الباردة في الشتاء. ويحدث شبيه ذلك في أوراق الشجر نهاية فصل الخريف حيث يقصر النهار وتقل مادة الكلوروفيل فتكتسي الأوراق قبل سقوطها بشحوب أصفر فأحمر وآخر في حمرة وزرقة البنفسج وتتكون لوحات زاهية من الألوان ألفناها قبل أن نراها رأي العين، في لوحات كبار الرسامين في العالم. وتسمي الظاهرة فيلوج foliage نرى شبيها لها في شجرة الحراز على  الشطآن تشحب عندما يفيض النيل ويصل إلي عروقها كالحزينة في الحداد بينما تخضر وتزهو  بقية الأشجار فرحا بالري الوفير وما يحمل من طمئ!
واقتضت حكمة الله البالغة أن يكون الإنسان ، خليفته في الأرض حرا يتحمل تبعات خياراته لا تحكمه قوانين جبرية كسائر الأحياء. وهو موجود في جميع تلك الأنحاء شديدة الصقيع والبرد  وتلك التي تكاد تتميز من الغيظ من شدة الحرارة .فهل تعلمنا هذه الظواهر الطبيعية قيمة ما حبانا الخالق بها من الحرية لكي نحرص عليها ونعض عليها بالنواجذ . وهل نستلهم مما أوردنا من الظواهر أن نهرول إلي بيات شتوي أو سبات صيفي ما ، نستعيد به الربيع لحيواتنا ؟
قلت ذلك لجدي الشيخ فوضع نظارته سميكة العدسات على كتاب ضخم في التصوف كان في حجره يطالعه ونصحني بألا أفعل وقال دع الأيام تفعل بك  ما تشاء فليس وراء الأكمة من شئ سواء خواء أبدي وخلاء يمتد إلي ما لا نهاية، وآس نفسك لتبرأ جراحك بأن تقنع نفسك بأنك قد هلكت عند اجتياح هولاكو لعاصمة الخلافة بغداد أو فيها على أيدي الغزاة الغربيين بداية هذه الألفية الثالثة أو كنت يابانياً هلكت بالقنبلتين في هيروشيما وناجازاكي، ثم وضع نظارته على أرنبة أنفه وعاود القراءة في كتابه الأثير!
كدت أقول له لقد أقام الإمام الغزالي شيخ المتصوفة أعواماً عدة قريبا من صومعة الجامع الأموي في دمشق في نوع من البيات الشتوي أو السبات الصيفي فألف المؤلفات التي لم تزل تشغل الناس، لكني أحجمت عن جدال الشيخ وقلت أركن إلى التأمل ملتمسا الطرق لما يحفظ الحياة ويحمي الأوطان.
ما رأيكم أنتم دام فضلكم ؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى