التيجاني عبد القادر حامد
(6) لماذا تلجأ الإمارات لتسليح الاستثمار في أفريقيا؟
لقد كانت النظم الإمبريالية السابقة تجرد عساكرها للتمدد أو الاستيطان القسري في إفريقيا (وغيرها) لواحد من ثلاثة عوامل: التخفيف من الاكتظاظ السكاني لديها؛ إيجاد أسواق لتصريف سلعها ومصنوعاتها؛ أو لجلب الخامات لمصانعها- وكل ذلك مع ثقتها البالغة في تفوقها العسكري. أمّا في حالة دولة الإمارات فبعض هذه العوامل لا توجد لديها، فيدفعها من ثمّ نحو التمدد العسكري في إفريقيا. فعدد سكانها- مثلاً- لا يتجاوز المليون الواحد، وعدد قواتها المقاتلة ليس بكبير ولا خطير. أمّا من حيث الأسواق فإن الدول الإفريقية المستهدفة هي من أفقر دول العالم ولا يتجاوز دخل الفرد في بعضها بضعة دولارات في اليوم الواحد. فلا يبقى والحالة هذه غير الرغبة في الأراضي الزراعية الشاسعة والمعادن النفيسة. فكأن دافع الإمارات للاتجاه نحو إفريقيا لا يتعدى قضم الأراضي والاستيلاء على الذهب؛ وهو ما تؤكده التقارير التي تشير إلى أن 66.5% من ذهب إفريقيا يُهرَّب (أو يُصدَّر) إلى الإمارات.
على أنّ كل ما سبق من القول لا يوضح السبب الذي يجعل الإمارات تقرن استثماراتها في إفريقيا بالعتاد العسكري؟ هل لأن القارة الإفريقية موبوءة بالتوترات المزمنة والصراعات الأهلية ولا تتوفر فيها بيئة صالحة للتعاون التجاري السلمي، أم لأنّ الإمارات تستفيد من مناخ النزاعات والانقسامات المجتمعية- حيث تعاني الدول من عجز مزمن، وتضطرب فيها النظم الاقتصادية والقانونية، وتنشط فيها المعارضات العسكرية والمليشيات المسلحة؟ وهل ذلك هو ما يغرى الإمارات أن تبسط سيطرتها حيناً على المعارضات في تلك الدول، وحيناً على بعض حكوماتها، فتتحول العلاقة بين الجانبين من التبادل التجاري إلى التدخل العسكري، ومن مقايضة الذهب بالغاز إلى مقايضة الذهب بالسلاح؟ وما علاقة الإمارات بصناعة السلاح وتصديره؟
(7) من تصدير النفط إلى تصدير السلاح:
تشهد الإمارات مرحلة من الاندفاع الشديد نحو الصناعة الحربية (خاصة في مجالات التكنولوجيا العسكرية المتقدمة والذكاء الصناعي) وتخصص لتلك المشاريع مبالغ مالية ضخمة. وقد جاء في تقرير معهد استكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) أن الإنفاق العسكري العالمي في عام 2024 بلغ 2.72 ترليون دولار، مرتفعاً بنسبة 9.4% عن العام السابق، وأن نسبة مبيعات شركات السلاح العالمية قد ارتفعت إلى 8.5% ويشير التقرير إلى أن أكبر المستوردين لهذه الأسلحة هي دول الجنوب. ولكن ما يلفت الانتباه في هذا التقرير هو بروز مجموعة إيدج (Edge) الإماراتية ضمن قائمة أعلى 25 شركة عالمية لتصدير الأسلحة، مع أنّ الإمارات دولة صغيرة ولا تعرف بأنّها تمتلك جيشاً كبيراً أو تدخل في حروب طويلة. فما هي مجموعة (إيدج)، وما الدور الذي تقوم به في تصنيع الأسلحة؟ وما هي “الأسواق” التي تستهلك الأسلحة الإماراتية؟
تشير التقارير إلى أن إنفاق الإمارات على الدفاع بلغ في عام 2025 حوالي 32.5 مليار دولار. وهي تهدف من ناحية عامة إلى بناء قدراتها العسكرية وصناعاتها الدفاعية على الذكاء الصناعي- من تصنيع للمتحركات ذات التسيير الذاتي، وإدارة للحروب الإلكترونية وتحليل المعلومات الاستخباراتية. وبناء على ذلك فقد أنشأت الدولة الإماراتية (2019) مجموعة إيدج الدفاعية (Edge Group) لتتولى قطاع الصناعات العسكرية. وفي فترة قصيرة نسبياً صارت مجموعة (إيدج) واحدة من ضمن أكبر 25 شركة في العالم للتصديرات العسكرية؛ ومن بين منتجاتها الطائرات بدون طيار، والطائرات المُسيّرة الهجومية الذكية للكشف عن مصادر التشويش، والصواريخ المضادة للسفن. كما تعمل في مجال الحرب الإلكترونية والاتصالات الأمنية.
وتهدف الإمارات من وراء هذه الخطوة- بحسب إفادة نائب الرئيس للاستراتيجية والتميز بالمجموعة- لتحقيق الاستقلال التكنولوجي وتقليل الاعتماد على المصادر الخارجية للقدرات الدفاعية. كما تهدف من ناحية أخرى لتطوير قاعدة صناعية دفاعية من خلال إدخال تقنيات الثورة الصناعية الرابعة وتطويرها.
وفي إشارة إلى أهمية الحرب الإلكترونية في الاستراتيجيات العسكرية الحديثة؛ أوضح النائب أن شركة (سجنال) إحدى شركات (إيدج) توفر عدداً من المنتجات التي تدعم اكتشاف اتصالات العدو، وإشارات الرادار واعتراضها والتشويش عليها؛ مما يشكل ميزة كبيرة في الهيمنة على الطيف الكهرومغناطيسي.
ويؤكد في المقابلة ذاتها بأن الإمارات قد اشتهرت تاريخياً باستيراد المنتجات الدفاعية، ولكنها تتطلع الآن إلى التحول إلى لاعب يستثمر، ويصدر المنتجات العسكرية.
وفى الإجابة عن سؤال “الأسواق” التي تستهدفها شركة (إيدج) غير السوق المحلية والخليجية أجاب – بلا أدنى تردد- بأنّ الشركة تستهدف الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
(8) خاتمة: من الإمبريالية الفرعية إلى الإمبريالية الناشزة (recalcitrant imperialism):
ظل الباحثون المُنظِّرون في حقل الاقتصاد السياسي يترددون في وصف الدولة الخليجية الغنية التي لا موارد لها غير النفط؛ فظل بعضهم يتمسّك بمفهوم “الدولة الريعيّة” الذي اقترحه الكاتب الإيراني حسين مهداوي في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث تصاب الدولة بلعنة الموارد (أي أن يوفر لها النفط طفرة في النمو دون أن يصاحبها إنتاج حقيقي أو تنمية بشرية، فتتحول العلاقة بين المواطن والدولة إلى علاقة زبونية).
بينما تمسك آخرون بنظرية “التبعيّة” التي سار عليها سمير أمين وزملاؤه؛ معتبرين أنّ دول العالم الثالث- سواء كانت ريعية أو غير ذلك- هي في معظمها دول تابعة للنظام الرأسمالي العالمي، ولن تتحقق لها تنمية حقيقية إلا بعد الانفكاك من ذلك النظام.
وسيراً على هذا المنوال قام المفكر الماركسي البرازيلي- روى مورو ماريني- ببلورة مفهوم الإمبريالية الفرعية (sub-imperialism)؛ وهي في تقديره دولة هامشية، ولكنها تستطيع بطريقةٍ ما أن تركز رأس المال المحلي وتمركزه (على نسق الرأسماليات المتقدمة)، وتمارس- من ثمّ- نمطاً من الإمبريالية داخل نطاقها المحلى- الإقليمي، ولكنها تظل تعتمد – في الوقت ذاته- على قوة إمبريالية مركزية كبرى في الخارج (كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً).
وكما حاول ماريني تطبيق هذا النموذج على حالة البرازيل وبعض دول أمريكا اللاتينية، وحاول آخرون تطبيقه على إسرائيل؛ فقد حاول الباحث حسام عثمان محجوب تطبيقه على حالة دولة الإمارات في بحث مطول بعنوان: “الدور الإمبريالي الفرعي للإمارات العربية في إفريقيا”.
وقد أخذ محجوب يعدد نمط الاستراتيجيات التي تسير عليها الإمارات في استثماراتها في إفريقيا؛ من استراتيجية السيطرة على الموانئ، إلى قضم الأراضي الزراعية، إلى نهب المعادن، إلى التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة.
وانتهى محجوب في هذا البحث إلى أنّ هناك مطابقة تامة بين الحالة الإماراتية ومفهوم الإمبريالية الفرعية.
ونحن إذ نشيد بالجهد التنظيري الذي بذله محجوب، وإذ نلاحظ مثله حالة التقارب اللافت بين مفهوم “الإمبريالية الفرعية” والحالة الإماراتية في إفريقيا؛ إلا أننا نرى أنّ السياسات التي تتبعها الإمارات الآن، والأدوار التي تقوم بها؛ تتجاوز مفهوم “الإمبريالية الفرعية”. فهذا المفهوم لم يعد يحيط بحالة الإمارات إحاطة تامة، ولا يفسرها من ثمّ تفسيراً قاطعاً؛ وذلك لعدد من الأسباب نذكرها فيما يلي:
السبب الأول: أنّ حالة الإمارات الراهنة لا تشبه في كثير من الوجوه حالة الدولة “الهامشية” التي تعتمد تماماً على قوة إمبريالية مركزية في الخارج. فإذا استثنينا القدرات العسكرية النووية التي تمتلكها الدول الرأسمالية الكبرى فمن الممكن أن يقال إنّ هناك “حاجة متبادلة” فبعض هذه الدول تحتاج إلى الإمارات مثل حاجة الإمارات إليها. ولا يعني هذا أنّ الإمارات قد صارت “ندا” للدول الكبرى، ولكن يعني أنّ بعض الدول الكبرى قد “تصاغرت” لدرجة تجعلها تخطب ود الإمارات في كثير من المواقف الاقتصادية واللوجيستية، أو تغض الطرف عن تصرفاتها وتحالفاتها.
السبب الثاني: هو أنّ الإمارات (من خلال صناديقها السيادية) قد صارت لها استثمارات كبيرة في الدول الأوروبية والأمريكية، فتمكنت من الاستحواذ على أسهم عالية في كثير من الشركات العالمية الكبرى؛ وهذه الاستثمارات الكبيرة تسهم بلا شك في دعم الاقتصاديات الأوروبية والأمريكية، وتعزز الناتج المحلي، وتوفر فرص عمل لامتصاص البطالة؛ فتخفف من ثمّ الضغط على الميزانيات العامة لهذه الدول، وعلى التوازنات الانتخابية فيها. وحينما نظر بعض الباحثين إلى التأثير السياسي للعلاقات التجارية بين الإمارات وفرنسا مثلاً؛ صاروا يخشون على فرنسا (وهي دولة إمبريالية مركزية) أكثر من خشيتهم على الإمارات، وصاروا ينصحون فرنسا بألا تكون “سجيناً” لشراكاتها التجارية مع الإمارات (وهي دولة هامشية).
السبب الثالث: إنّ الإمارات لم تعد ترى نفسها دولة هامشية تابعة – كما يتصور البعض- وإنّما ظلت تعمل- منذ عام 2017- على تعزيز مكانتها كمركز عالمي للثورة الصناعية الرابعة. فهذه الاستراتيجية الصناعية الرابعة التي تسير عليها، وما يترتب على ذلك من قدرات تكنولوجية “مستقلة” (كما تعكسه منتجات الصناعة الدفاعية الذي عرضنا وصفاً له فيما سبق) سيجعل منها قوة إمبريالية في محيطها الإقليمي- بلا شك، فضلاً عن أنها لن تظل مجرد دولة هامشية “تابعة” في المحيط العالمي- كما يفترض النموذج- وإنما ستبرز كقوة إمبريالية “ناشزة” في المحيط الدولي- كما نحاجج في هذا البحث.
السبب الرابع: إنّ الاستثمارات الإماراتية في إفريقيا ستتطور في اتجاه الإمبريالية الكلاسيكية، ولا يوجد ما يدعو للقول بأنّها “إمبريالية جديدة” لولا أنّ الأفارقة القدامى كانوا يقاومون الدول الإمبريالية، ويسعون إلى “التحرر” منها. أمّا الحكومات الإفريقية الراهنة فيعاني معظمها من عدم المشروعية، ويستشري فيها الفساد، وتتضاءل فيها فرص التنمية؛ بل إنّ كثيراً من القادة الأفارقة الجدد يهرعون إلى الدول الإمبريالية فيجدون عندها الحماية.
وتشير بعض التقارير إلى أنّ عدد الشركات الإفريقية المسجلة في دبي يزيد عن 26 ألف شركة، ما يسمح للأثرياء الأفارقة أن يُهرِّبوا أموالهم إلى الإمارات متى شاءوا، فيجدوا فيها ملاذاً آمناً يتمكنون فيه من شراء العقارات وإبرام الصفقات، وتتمكن فيه الدولة المضيفة من شراء الولاء، وتشكيل وإعادة تشكيل القوى السياسية، والتحكم في الحكومات الإفريقية كما تشاء.
وهكذا، وبناءً على ما سبق، يمكن القول بأنّ الإمارات ماضية استراتيجياً نحو التصنيع الحربي وتصدير الأسلحة؛ وأنّها تنظر إلى الدول الإفريقية كواحدة من أهم أسواقها؛ ومنها أنّها تسعى للتحوّل من دولة إمبريالية تابعة إلى دولة إمبريالية “ناشزة” – قريباً من الحالة الإسرائيلية.
وهنا ستبرز أمامها معضلات وأسئلة صعبة؛ من شاكلة تلك الأسئلة: هل أن “تسليح الاستثمار” في إفريقيا هو الطريق الذي لا طريق غيره للاستثمار؟ وماذا لو فشلت استراتيجية التسليح؟ وماذا لو طال أمدها وامتدت إلى غيرها من دول الجوار؟ وماذا لو جرّت إليها أطرافاً أخرى ممّن تهددت مصالحهم العليا وأمنهم القومي (كالسعودية مثلاً ومصر وتركيا)؟ وإذا استطاعت – من خلال عسكرة الاستثمار (قضم الأراضي الإفريقية ودعم المليشيات)- أن تفرض سيطرتها على بعض الدول الأفريقية الغنية بالموارد الطبيعية! فهل ستتمكن كذلك من إنشاء بنية اقتصادية- عسكرية مستقلة في إفريقيا- بعيداً عن هيمنة المراكز الإمبريالية الكبرى (الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً؟) وكيف ستحتفظ بعلاقاتها مع الصين دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها بالولايات المتحدة؟ علماً بأنها قد وقّعت مع الصين على مبادرة الحزام والطريق (The Belt and Road Initiative)، بمبلغ 3.4 بليون دولار، وهي مبادرة تهدف لتعظيم الاقتصاد الصيني بجعل ميناء جبل علي مركزاً رئيساً (ينفتح على البر والبحر) لنقل السلع الصينية، حيث تعبر 60% من الصادرات الصينية إلى كل أقاليم العالم من خلال الإمارات. وكيف ستحتفظ بعلاقاتها مع الولايات المتحدة وهي تعزز علاقاتها مع روسيا، بل وتمثل مركزاً (لإعادة تدوير) السلع الروسية إلى الأسواق الآسيوية والإفريقية، رغم تصاعد العقوبات الأمريكية على روسيا؟
إنّ الإجابة عن مثل هذه الأسئلة وغيرها تتطلب إرادة ورؤية لا يوفرهما الذكاء الصناعي، وقد يكتشف قادة الإمارات أنه ليس متاحاً لهم الانطلاق في مشاريعهم التوسعية، والخروج من قبضة المراكز الإمبريالية الكبرى، إلا بالدخول – طوعاً أو كرهاً- في قبضة نظام أمني اقتصادي تكون إسرائيل مركزه الرئيس – مع ما يتولد عن ذلك من مخاطر وجودية في نطاقهم المحلي والإقليمي.
