رأي

الإسلاميون بين الدمج والإقصاء:  نمو ديمقراطي أم مواجهة دموية صفرية؟ أو ضد حظر الإسلاميين مرة أخرى.

معتصم أقرع 

أجزاء من الحركة السياسية السودانية مصابة بمرض اللا-معقول في إصرارها على إبعاد الإسلاميين من مستقبل العمل السياسي، في نفس الوقت الذي تطرح هذه الجهات المُقصِّية للإسلاميين نفسَها بأنها “حمائم سلام”. هذا الإبعاد يأتي على لسان أحزاب هزمها الإسلاميون في انتخابات الجامعات، من الجزيرة إلى روسيا الشيوعية، عشرات المرات مجتمعة أو فرادى.

ولا ننسى أن الجبهة الإسلامية كانت الفائزة بالمرتبة الثالثة في آخر انتخابات ديمقراطية بعد حزبي الأمة والاتحادي، ولم يكن الفرق بينها والثاني كثيرًا. كما أنها فازت بجميع مقاعد الخريجين البرلمانية ما عدا استثناءات بسيطة.

أضف إلى ذلك أن الحركة الإسلامية تمتعت بالنفوذ السياسي الأعلى في السودان منذ الاستقلال، وبالذات في أوساط القطاعات المتعلمة. ثم أضف إلى ذلك حكمها للسودان ثلاثين عامًا عبر انقلاب دموي.

لذلك يأتي الإصرار على إبعاد الإسلاميين إلى “الكرنتينة” غريبًا من عدة نواحٍ. الناحية الأولى هي أن خطاب الإبعاد لا يشترط أي إبعاد للجنجويد، وهم أسوأ من الإسلاميين. كما أن الإسلاميين ليسوا الجهة الوحيدة التي تآمرت على الديمقراطية السودانية. فإذا كان من حق الجنجويد العمل والمشاركة، ومن حق أحزاب أخر تآمرت على الديمقراطية، ومن حق أحزاب عملاء الأجنبي المشاركة، فما هي حجة منع الإسلاميين؟

من الناحية الثانية، يأتي هذا الإقصاء إما من أحزاب تفوَّق عليها الإسلاميون في الانتخابات مرارًا وتكرارًا، أو من أفراد لم يُفوِّضهم أحد أصلاً، ولم يخوضوا تجربة انتخابية واحدة، ولم يحظوا بصوت واحد يُضفي مشروعية عليهم كممثلين للشعب السوداني. ومع ذلك يجلسون بكامل الاعتزاز بنفاقهم ليحددوا من يحق له المشاركة السياسية ومن لا يحق له، ومن يجب أن يُطالَب بالتوبة علنًا.

عندما تجلس وتضع ساقًا فوق الأخرى وتصدر فتاوى تمنع الإسلاميين من المشاركة السياسية، فأنت لا تصبح ديمقراطيًا ثوريًا، بل تصبح مجرد أحمق، منافق   باسم الديمقراطية، وأحمق، وسلطوي، قمعي، بوليسي وخميرة للانقسام السياسي والتناحر الأهلي  الأبدي.

ولا أسوأ من الفتاوى المحلية في من يحق له المشاركة إل ا شكوي الإسلاميين للأجنبي للاستقواء به لحسم صراع وطني حتى تأتينا الحرية مرة أخري “علي بوارج الغزاة”. وتبلغ المهزلة مدي سخافتها حينما ياتى تأليب الغزاة علي الوطن من نفس الفم الذي وبخ الشباب الفائر بالثورة بقوله إن شعار أي كوز ندوسو دوس شعار إقصائي عنيف وكأن مدافع الأجنبي التي يدعوها ليل نهار لدوس الكيزان ستكون أقل عنفا من شباب لم يملك سوي لسان ولم يتبع قوله فعلا.

الإسلاميون حقيقة من حقائق الاجتماع السياسي السوداني والعربي، وفي دول الأغلبية المسلمة كالقضاء والقدر، اتفقت أم اختلفت معهم. فقد فاز الإسلاميون في انتخابات تركيا، وفازت حماس في الانتخابات الفلسطينية التي تمت قبل عقدين، وفاز الإسلاميون في انتخابات الجزائر في أوائل التسعينات، كما فازوا في انتخابات المغرب وغيرها.

أمام الحركة السياسية خياران: أحدهما إدماج الإسلاميين في اللعبة الديمقراطية وإلزامهم بشروط التداول السلمي للسلطة واحترام حقوق المخالفين، إذ أن الديمقراطية لا تعني دكتاتورية الأغلبية الفائزة في الانتخابات. وهذا الإدماج ممكن كما تشهد تجربتا تركيا والمغرب.

وفي تركيا لعب الإسلاميون دورًا محوريًا في تأسيس الديمقراطية التركية (المنقوصة كغيرها في كل مكان) وانتزاع الحكم من براثن مؤسسة عسكرية ضاربة على يد أردوغان وسلفه نجم الدين أربكان. وفي المغرب فاز الإسلاميون في الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١١ وشكل عبد الإله بن كيران الحكومة وحكم سنينًا، ثم خسروا الانتخابات عام ٢٠٢١ وذهبوا عن السلطة.

الإسلاميون كائن تاريخي يتحور بتبدل الزمان والمكان وشروط الصراع، وليسوا جوهرًا ثابتًا عابرًا للتاريخ كما صوره المستشرقون وأتباعهم من كمبرادور بلاد المسلمين.

والخيار الآخر هو منع الإسلاميين من العمل السياسي والمشاركة، ولكن في هذه الحالة لا يستطيع المانع ادعاء أنه “حمامة سلام” ولا ادعاء أنه داعية للديمقراطية؛ لأن المنع من العمل ببساطة يدفع الإسلاميين للعمل من تحت الأرض، ويعني الدخول معهم في مواجهة صفرية دامية. ويصعب مطالبة الإسلاميين بإلقاء باقات زهور على من منعهم حق المشاركة، ويصبح المانع المسؤول الأول عن تأزيم الساحة السياسية.

بعد سقوط نظام البشير عام ٢٠١٩، تعالت أصوات تطالب بحظر الإسلاميين، فكتبت مقالًا ضد حلهم وحظرهم لنفس الأسباب التي ذكرتها أعلاه وأسباب أخرى – وقد كتبت حينها أيضًا ضد حل جهاز الأمن، ولكنهم حَلُّوه وسلَّموا قدراته وملفاته وأدواته للجنجويد.

قبل أيام سمعت الاقتصادي الفيلسوف الماركسي **يانيس فاروفاكيس** يقول إنه ضد حظر الأحزاب النازية في ألمانيا وأوروبا لسببين: السبب الأول مبدئي، يلزم خصومهم بهزيمتهم في ساحات الرأي والسياسة لا بالمنع البوليسي. والسبب الثاني تكتيكي، يتمثل في أن الحظر يتيح للأحزاب النازية لبس جلد الضحية والعمل من تحت الأرض بأساليب تشكل خطرًا أعظم على المجتمع مقارنة بالسماح لهم بعرض بضاعتهم في دائرة ضوء سوق السياسة على قدم المساواة مع خصومهم.

وفي بلاد السودان، ذهب المثقف الماركسي عثمان عبدالله (عثمانتو) إلى نفس ما ذهب إليه **يانيس فاروفاكيس**، ورفض حظر التيار الإسلامي على يد الأجانب، وقال إن حسابهم يقوم به الشعب السوداني، وأحسب أنه يشير إلى تصفيتهم فكريًا وسياسيًا لا بالبوليس ولا باستدعاء الأجانب لجلدهم نيابة عنا.

وبطبيعة الحال، من خواء الفكر السياسي نتوقع من يدعي أن قولنا هذا فيه دفاع عن الإسلاميين. ولكن التمييز بين الدفاع عن فكرة جهة ما والدفاع عن حقها في التعبير قضيتان مختلفتان، وهذا الاختلاف ظل معروفًا خارج دوائر الجهل أو الفاشية منذ أيام فلاسفة اليونان القديمة.

عليه فإن قولي هذا لا يمكن تفسيره على أنه اتفاق مع الإسلاميين؛ لأنه دفاع عن الديمقراطية منزوعة النفاق وعن حرية المخالف. لكن قولي يتيح اتهامي بـ”الماركسية الفاروفاكسية” أو الماركسية “العثمانية”.

إن الدفاع عن حق الآخرين في المشاركة السياسية لا يعني الاتفاق معهم على أي شيء، وهذا مفهوم قديم قدم مئات السنين قبل أن يقول فولتير: “أختلف معك في الرأي، لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في قوله”. ولا ننسى روزا لوكسمبورغ الماركسية التي قالت إن حرية التعبير تعني بالضبط حرية المخالف، ومن لا يؤمن بحرية المخالف لا يؤمن بالحرية أصلاً. وكما قال تشومسكي: إنك لا تؤمن بالحرية ما لم تدافع عن حرية أسوأ أعدائك.

وكل هذا يعني أن المثقفين والسياسيين الداعين لمنع الإسلاميين – أو على الأقل استتابتهم حتى يحصلوا على “صك غفران” كما حصل المؤتمر الترابي الشعبي على يد كمال عمر وعلي الحاج – فإن هذا المنع يجعل الداعين إليه أعداء للديمقراطية وأعداء للسلام؛ لأن وصفتهم تعني دولة بوليسية تمنح وتمنع حق المشاركة، كما تعني صراعًا داميًا وصفريًا مع أحد أقوى التيارات السياسية في السودان والمنطقة بمقياس تأثيرهم السياسي والفكري والانتخابي وقدراتهم القتالية.

ولن تمارس هذه الصفحة أي اعتذار بتكرار ممل بالتأكيد على خلافها مع أطروحات الإسلاميين؛ لأن ذلك انحناء يشرعن الإرهاب الفكري الجاهز للقاء ثمة الكوزنة على خصم لا يستطيع مقارعته بالحجة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى