رأي

الإذعان للإملاءات ليس خياراً

دكتور خضر هارون أحمد

تباينت الآراء بين مؤيد ومعارض لقرار حكومة السودان بعدم المشاركة في اجتماعات جنيف المنعقدة منذ أسبوع لبحث الجوانب الإنسانية الناتجة عن الحرب المستعرة في السودان منذ أكثر من عام، والتالي هو مرئيات كاتب هذه السطور حول الأمر.

أولاً ما من عاقل يفهم في العلاقات الدولية يدعو لمعاداة الولايات المتحدة الأمريكية، فهي الفاعل الأقوي في الساحة الدولية حتي الآن رغم بروز قوي أخري أغلب الظن أن تواصل الصعود في مقبل العقود والسنوات القادمات لتخلق عالماً متعدد الأقطاب يتيح مساحات للدول الأضعف للمناورة وتعدد المسارات بما يحفظ وجودها، ولكن حتي ذلك الحين، تظل أمريكا هي الدولة الأقوي اقتصادياً وعسكرياً والأكثر أثراً وتأثيراً علي مجريات الأحداث في العالم، وبذلك يصبح افتعال المشكلات والأزمات معها ضرباً من التهور لا تحمد عواقبه.

– الحقائق أعلاه لم تزل قائمة وكذلك محاذيرها والتحسب لنتائجها التي أشار إليها الصحافي المصري محمد حسنين هيكل في سعيه لتسويق مبادرة وزير خارجية أمريكا ويليام روجرز في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1970.وتلك مبادرة قبلها رئيس مصر جمال عبد الناصر هدفت لخفض التوتر في حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل. كتب هيكل مقالة طويلة استغرقت صفحة كاملة من صحيفة الأهرام عنوانها:

“مناطحة أمريكا سباحة في بحار صعبة.”

– والسعي الحثيث إلي نقيضه، أي إقامة علاقات ودية معها لتحقيق مصالح عديدة لا حصر لها هو غاية دبلوماسية كل بلد في العالم.

ولكن الإذعان المجاني ليس حلاً ، ولم تختاره سوى اليابان وألمانيا طائعتين بعد حرب ضروس، وهو إذعان كان في حقيقته نتيجة طبيعية لهزيمة ساحقة في الحرب العالمية الثانية، أستفادتا منه فائدة عظيمة بالوفورات الناتجة عن تحريم إقامة جيوش لكليهما مما دفع كلتاهما لمزيد من التصنيع والنهضة الاقتصادية بوتيرة متسارعة.

– والإذعان المجاني هو الذي يبرر فقط بتفادي غضب الأقوى وبطشه لا لقوة منطقه وسديد دفوعاته القائمة علي القوانين والأعراف الدولية، يعد امتهاناً للذات وتفريطاً في الكبرياء الوطني فوق أنه ليس هو الخيار الوحيد المتاح، فالدول الضعيفة بإمكانها استخدام القوانين الدولية لتسجيل نقاط علي الدول الكبري كأمريكا وإظهار ازدواجية المعايير لديها وشحذ الرأي العام الشعبي العالمي لقضاياها دون شتائم أو هتافات حماسية سيما وأن أمريكا هي التي ساهمت وحثت علي صياغة تلك القوانين المنظمة للعلاقات بين دول العالم بعد تلك الحرب المدمرة، مما يجعل موقفها محرجاً ومناقضاً لأفعالها.

ويدلل علي ذلك بأن نظام الساندنيستا اليساري في نيكاراغوا في تسعينيات القرن الماضي قد كسب شكواه ضد الولايات المتحدة لدي محكمة العدل الدولية عندما زرعت أمريكا الألغام في مداخل موانيها البحرية.

– إن الاستناد علي القواعد التي وضعها النظام الدولي منذ اتفاقية ويستفاليا في العام 1648 ثم أقرتها عصبة الأمم ثم منظمة الأمم المتحدة وأهمها قاعدة (الدولة – الأمة) صاحبة السيادة علي أراضيها وامتناع التدخل في شؤونها الداخلية وأن الدول متساوية أمام القانون الدولي غنيها وفقيرها، كثيرة السكان وإن تجاوزوا المليار أو قل عدد سكانها إلي بضع آلاف، لا تزال حجة علي تنمر الأقوياء ودريئة من عدوانهم ولو علي المستوي الأخلاقي تحط من أقدارهم امام البشرية، يجب اللجؤ إليها وحشد الضعفاء حولها والضمير العالمي.

– وهب أن هذا الحق ، حق الاستناد علي القوانين الدولية والشكوي للمؤسسات التي أقامها لم يكن متاحاً فإن ذلك لا يجعل الإذعان للأقوى لمجرد أنه الأقوي خيارا، وإلا لم يكن التاريخ قد تغير عبر الممانعة والصمود ولم يكن قد احتفي بالبطولات وثورات الضعفاء الذين قاوموا الهيمنة اعتزازا بأنفسهم ورفضاً للضيم وانتصروا علي عدوهم أو انتصرت رؤاهم في الإبقاء علي الكرامة الإنسانية في وجه الطغيان، ولما ألفت الملاحم وخلدت الأبطال بالأشعار والرسومات والتماثيل.

– ونظرا للدور الأمريكي منذ العام 2019 المتماه أو الصانع ربما لترتيبات المبعوث الأممي فولكر، وتدخلات الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي مع أقلية سودانية مختارة غير منتخبة لتحديد مستقبل السودان وليس للفترة الانتقالية كما الزعم بذلك، ففنون الانتقال السلس يعتبر السودان معلماً في تجاوزها بسلام ، يجعل ذهاب الحكومة إلي محادثات جنيف مع ذلك السجل المريب إذعاناً مهيناً لا يشبه الكرامة الإنسانية في شئ.

خاصة مع ما حكاه رئيس وفد الحكومة عندما رفض المبعوث الأمريكي شروط “حكومة الأمر الواقع القائمة في السودان” للمشاركة في المفاوضات وأصر علي شروطه هو إما أن تقبل جملة أو ترفض بالكلية، في سلوك يجعل من السودان مستعمرة عليها السمع والطاعة !

و أوردت الوسائط للبرهان تصريحاً قال فيه إن وزير الخارجية الأمريكية قد دعاه للمجئ إلي جنيف بصفته الشخصية لا بوصفه رئيساً لمجلس السيادة الانتقالي أو قائداً للجيش ! إن لم يكن هذا هو المهانة والإذلال لشعب بأكمله يتم تجاهله في شأن داخلي يخص السودان وحده وفقاً للقوانين الدولية فبم نسميه ؟

ولا ينسي التاريخ مثيله الاصرار السابق علي الاتفاق الإطاري مجهول النسب وشرط القبول به بالتوقيع عليه أو اشعال الحرب الدموية المدمرة ؟ والآن هذه (الجنيفا) يقولون : إما هي أو الويل والثبور والاجتياح الأفريقي الذي سيسمى الأممي؟ هل هذه أجواء تتيح للسودان في جنيف شرح قضيته كما رأي البعض؟ لو تنوع المؤتمرون وشملوا دولا يعتد السودان بصداقتها وإنصافها ربما كان ذلك ممكناً ألا يحق لوفد الحكومة في مثل هذه الأجواء المشحونة بالعداء أن يتوجس من الحضور وإمكانية استغلال وجوده للادعاء بحصول المخطط المعد سلفاً علي الإجماع الذي يجعله واجب النفاذ مثلما قيل عن الاتفاق الإطاري لمجرد توقيع الجيش عليه بالأحرف الأولي .أنه قد أصبح واجب النفاذ .ما من عاقل خبر أحابيل التربص لا يأخذ حذره في مثل هذه الظروف.

أحقاً نحن في الألفية الثالثة لميلاد السيد المسيح عليه السلام ننعم بالحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية؟ هل يقبل إنسان حر يحترم إنسانيته أن يطأطئ الرأس ليقتات كما يقتات النبات؟

ذكر الباحث في المجلس الأطلنطي ، كاميرون هدسون ان البرهان اتصل قبل أكثر من عام بوزير الخارجية الأمريكي يلح علي تطبيق اتفاق جدة للضغط علي المليشيا للخروج من بيوت المواطنين توطئة لوقف الحرب فلم يشأ الوزير فعل شئ وكان في مقدوره أن يفعل بالضغط علي داعمي التمرد حلفاء أمريكا لكنه لم يفعل! ولو أنه فعل حينها لحفظت أرواح عديدة وممتلكات ولتمهدت الأجواء لحل سلمي يوقف الحرب ويعيد السلام .

فيم الهرولة الآن وفي خواتيم عهدة الإدارة الأمريكية الحالية ؟ وقد كان بالإمكان تطبيق الاتفاق الذي ساهمت في إبرامه في جدة عام 2023 ففيه يكمن الحل لو أن الغاية هي الحل . إزاء هذا مع موقف المبعوث المتشدد كيف يتصور أن تتيح أجواء مباحثات جنيف فرصاً لتوضيح موقف الحكومة وتسجيل نقاط علي مؤتمرين كثر يتشاطرون الرؤي والأهداف والتحامل علي الحكومة والجيش ؟!

كل أولئك لا يعنيهم وقف الحرب وكل هذه الأحابيل تتستر وراء رهاب يرى في وقف الحرب واستئناف السعي نحو الديمقراطية مطية ستعيد الإسلاميين للسلطة وتلك فرية لا تقف علي ساق بل تساق ذريعة لزوال السودان بكامله واجتثاث وجوده من الأرض والاستيلاء علي ثرواته. ولقد عقدت في مقالة سابقة لي مقارنة بين عزيمة إدارة جورج بوش الابن في الإعداد النظري الجيد لهدف إنهاء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في السودان منذ انتقال السلطة إليها في بداية عهدتها وتنفيذ خطة التفاوض بما يلزم وحث الجانبين علي الانخراط في مفاوضات استغرقت قرابة أربع سنوات كان دور أمريكا فيها تقريب وجهات النظر بين المتحاورين دون إملاء حتي تم التوقيع علي إتفاق السلام الشامل ثم تتابعت الأحداث فأدارت أمريكا الظهر للسودان وانتهي شأن التطورات للدوائر المتربصة هناك وللوبيات تكن العداء للسودان أفضت لانفصال الجنوب . قارنت ذلك بين تعاطي الإدارة الحالية مع ملف حرب الجنجويد الحالية علي الشعب السوداني الذي اتسم بالتردد والإعتماد علي محورية الخوف من الإسلاميين بينما القتلى والجرحي والضحايا ، ضحايا الاغتصاب والتهجير مواطنون بسطاء عزل عوملوا بما ستسود به الصفحات غداً لبشاعته وندرة مثلاته في التاريخ حيث أهدرت الفرص العديدة بوقف تدفقات المرتزقة والأسلحة القادمة عبر مطارات تشاد للمليشيا وعدم زيارة مبعوثها للسودان ولو لمرة واحدة وترك أمر إيقاف الحرب والمعاناة لبروقراطيين لا يعرفون الكثير عن السودان ثم تحركات عجلي في أواخر أشهر الإدارة في الحكم لمؤتمر في سويسرا قفز علي اتفاق جدة الذي كانت أمريكا أحد رعاته . وكل تلك التدابير ، تدابير لا تعكس جدية لحل الأزمة بل تنذر بإطالة أمدها.

ولقد تمنينا من القلب أن تسهم اجتماعات القاهرة التي كانت منتظرة بين الحكومتين الأمريكية والسودانية لبحث تنفيذ اخراج المليشيا من البيوت والأعيان المدنية بما يفضي لتحقيق السلام أو التفاوض لإحلاله وبما يعين علي علاقات متوازنة وصحية بين البلدين تقوم علي الاحترام المتبادل وتبادل المصالح إلا أن ذلكً لم يتم للأسف.ولا زلنا نأمل فيما أشار إليه المبعوث الأمريكي في تغريدته ليوم 20 أغسطس الجاري عن تصريح مشترك للمؤتمرين في جنيف عبروا فيه عن نيتهم التواصل مع وفد من الجيش السوداني بالكيفية الممكنة بشأن الإغاثة. نرجو أن تشكل سانحة وتخلق نافذة للتواصل بين حكومتي أمريكا والسودان تفتح آفاقا للسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى