خالد محمد أحمد
قلتُ من قبل إن المناداة بحرية التعبير عندنا ليست مبدأً راسخًا، بل هي مجرَّد عباءةٍ يتدثَّر بها المعارض ما دام بعيدًا عن السلطة. وما إن يظفر هذا المعارض بمقاليد الحكم حتى يخلع العباءة في أوَّل منعطفٍ، ويتحوَّل سريعًا إلى دكتاتورٍ كامل الدسم.
الحاكم عندنا هو تجسيد الصدق ورمز الفضيلة في عيون أنصاره. أما المعارض، فشيطانٌ رجيمٌ في نظر مَنْ يجلس على الكرسي. ولا فرق في ذلك بين عسكريٍّ ومدنيٍّ، أو بين يساريٍّ وإسلاميٍّ، أو بين نيليٍّ أو مهمَّش؛ فالسلطة، في الثقافة السياسية السودانية، ليست منصبًا لخدمة الناس، بل موقعٌ لفرض الرأي وحراسة الامتيازات.
هذه الظاهرة ليست مجرَّد انحرافاتٍ سياسية طارئة، بل هي انعكاسٌ مباشرٌ لتركيبة الشخصية السودانية، التي لم تنشأ أصلاً على حرية الرأي في محيطها الصغير، أيْ الأسرة، والمدرسة، وسائر دوائر الحياة اليومية؛ إذْ لا يُشجَّع الطفل عندنا غالبًا على السؤال أو النقد، بل يُلقَّن الطاعة والامتثال، وحين يُحْرَم الطفل من هذا التمرين المبكِّر على الحوار والاختلاف، تُصبح الحرية لاحقًا في دواخله فكرةً جميلة في الخُطَب، لكنها عبءٌ لا يُحْتَمل في الممارسة.
إذن، الأزمة عندنا أعمق من إسقاط نظامٍ أو تبديل وجوهٍ في السلطة، بل أزمة إنسانٍ لم يتشرَّب ثقافة الحرية منذ طفولته. إنسان يرى في الاختلاف تهديدًا، وفي النقد عداءً شخصيًا. لذلك، لا غرو أن تتكرَّر الدائرة. ثائر يرفع شعار الحرية والعدالة، ثم حاكم يقمع ويُقصِي، ثم معارض جديد يأتي ليكرِّر الدورة نفسها.
وهذا ما رأيناه جليًّا في قادة (قحت) عندما وجدوا أنفسهم في سدَّة الحكم في غفلةٍ من الزمن؛ إذْ عاد كثيرٌ منهم بعد أن عاشوا سنين عددًا في بلادٍ راسخةٍ ديمقراطياتها، لكنهم، للأسف، رجعوا وكأنَّ أقدامهم لم تغادر مطار الخرطوم. عادوا حُكَّامًا تقودهم الأحقاد وتحرِّكهم روح الانتقام والتشفِّي، كالثور الهائج في مستودع الخزف؛ يأخذون بجريرة أهل الحلّ والعقد موظفين مغلوبٍ على أمرهم، ويقطعون أرزاقهم، ويجعلون من ذلك مادةً إعلامية لاستمالة البسطاء. عادوا ولم يغيِّروا ما بأنفسهم أو يشذِّبوا أفكارهم، ولم يتشرَّبوا معاني العدالة أو يطالعوا لوحتها؛ إذْ زغللت غشاوة الثأر أبصارهم، وأزكم الغِلُّ أنوفهم فلم يتنسَّموا عبير الحرية. عاشوا في تلك الديار بأجسادهم فحسب، فطَغتْ على ألسنتهم مرارة العداوة، ولم يستطعموا حلاوة حكم القانون. ذكَّرناهم بأن الأحرى بهم أن يضعوا أسسًا رقابية وقوانين رادعة للحدِّ من الفساد، بدلاً من الاكتفاء باستعراضات لجنة (إزالة التمكين) الإعلامية، التي استغلَّوها لستر سوءات حُكْمهم المترنّح. لم نُنْكِر عليهم استرداد الممتلكات المنهوبة ومحاسبة الفاسدين، لكننا حذَّرناهم من أن استعادة ما اكتنزه الكيزان من أموال السُّحت فحسب لن تردع عديمي الضمير من الحُكَّام الجدد أو من يأتي بعدهم من التعدِّي على المال العام؛ وذكَّرناهم بأن الفساد المالي ليس سوى جزءٍ يسير من ترِكة الإنقاذ الثقيلة، وأن الكيزان أفسدوا منظومةً مجتمعية في مختلف أركانها، فلماذا نسلِّم بأن غير الكيزان عاشوا في بروجٍ مشيَّدة حصَّنتهم من عدوى استشرَت ثلاثة عقود، واجتاحت كلَّ مشارب الحياة، ولم يَسْلم منها إلا من رحم ربي؟ قلنا لهم إن النَّهم إلى السلطة والإسراع بالتكويش على المناصب لفرض أيديولوجياتٍ بعينها على شعبٍ لم يكن مُهيّأً لتقبُّلها دفعةً واحدة سيُلحِق بهم ما حاق بالإخوان المسلمين في مصر بعد عامٍ واحد من وصولهم إلى السلطة؛ إذْ اندفعوا متعطِّشين لفرض أفكارهم، وكأنَّهم يريدون ممَّن كان يرتاد ملاهي شارع الهرم أن يصلِّي الفجر حاضرًا في المسجد بين عشيةٍ وضحاها. نصحناهم بأن الأفكار تُوصَّل بالوريد لا بالتجريع، لكنهم سدروا في غيِّهم يعمهون.
لكن هذا السلوك لم يبدأ مع (قحت)، بل هو إرثٌ متجذِّر في الممارسة السياسية السودانية؛ فالإسلاميون مارسوا الإقصاء السياسي قبلهم بكلِّ صوره. كفَّروا خصومهم أحيانًا، وخوَّنوهم أحيانًا أخرى، واحتكروا السلطة لفتراتٍ طويلة لم يتركوا خلالها إلا فُتات المناصب للمعارضين المُروَّضين والمؤلَّفة قلوبهم. ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك، بل نكَّلوا بمعارضيهم عبر حملات الاعتقال، والتعذيب، والفصل التعسُّفي، وأغلقوا أبواب الرزق في وجوه المخالفين لهم، واستخدموا أجهزة الدولة، والإعلام، والمناهج الدراسية لفرض أيديولوجيتهم على المجتمع، وسعوا إلى إعادة صياغة الإنسان السوداني وفقًا لقوالبهم الفكرية. وكانوا قبل ذلك قد انقلبوا على نظامٍ منتخبٍ، ليؤسِّسوا حُكْمًا يقوم على الولاء لا الكفاءة، وعلى الاستتباع لا الشراكة، وعلى مصادرة الفضاء العام لصالح فئةٍ قليلة تتحدَّث باسم الدين والوطن.
عِشْتُ أيضًا فترة ما بعد سقوط حُكْم نميري وتابعتُ محاكمات (سدنة مايو). صوَّروا لنا يومها أن كلَّ المايويين فسدة يُنْضَح على أثرهم الماء، وأن مَنْ أتى بعدهم من طينة الأنبياء؛ لكن سرعان ما اكتشفنا أن زمن الأنبياء قد ولى إلى غير رجعة، وأن إعلام الثورة على ضعفه ومحدوديته آنذاك قد أذاب شخصياتنا، وأطَّر أفكارنا، وصاغ وعينا فأصبحنا كالقطيع؛ فما بالك بآلةٍ إعلامية حديثة هائلة في يومنا هذا قادرة على أن تجعل من أوسعنا ثقافة وأغزرنا علمًا مجرَّد أبواقٍ وببغاوات تردِّد ما يُمْلى عليها.
الخلاصة هي أن الأزمة السودانية أعمق بكثيرٍ من إسقاط نظامٍ أو تفكيك مؤسساتٍ أو محاسبة فاسدين. إنها أزمة إنسانٍ لم ينشأ على ثقافة الحرية منذ طفولته؛ إنسان يرى في الاختلاف تهديدًا، وفي النقد عداءً شخصيًا، ويتحوَّل من ضحيةٍ إلى جلاَّد بمجرَّد أن تُتاح له السلطة. لذلك، لا غرو في أن أيّ تغييرٍ سياسي أو دستوري سيبقى هشًّا ما لم يصاحبه مشروعٌ لإعادة بناء الإنسان السوداني وعيًا، وتربيةً، وممارسةً يومية للحرية. أما الأجيال الحالية، فلا أمل فيها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
