خالد محمد أحمد
من أكثر القضايا التي شغَلت الساحة السودانية خلال العقود القليلة الماضية مسألة الهُويَّة، وخاصةً الجدل الدائر بشأن (عروبة) المجموعات في وسط البلاد وشمالها. وقد انقسم الناس بين مَن يفاخرون بعروبتهم، ومَن يُنكِرونها عليهم، ومَن يرونها وهمًا متوارثًا. غير أن خطورة هذا الجدل، ولا سيَّما في أوقات الحروب، أنه ينزلق سريعًا إلى معارك لفظية تُعيد إنتاج عُقَد التفوُّق العرقي نفسها التي يُفترَض أنها موضوع النقد.
لقد تحوَّل الحديث عن الهُويَّة في السودان إلى ما يُشبه (الموضة الفكرية)، إذْ يجِد بعض المثقَّفين أن أقصر طريقٍ للظهور وتلميع الذات هو مهاجمة عرب الوسط، وإغراق النقاش العام في حفرةٍ ضيّقة اسمها (صراع الهُويَّة). لكن هذا المسلك يزيح جوهر الأزمة، أي المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويُلهي الناس في معركةٍ جانبية بشأن إثبات أصالة عروبة الجلاَّبة أو تجريدهم منها.
المفارقة أن الذين يشنُّون هذه الحملات يظنُّون أنهم يحاربون (وهم العروبة)، لكنهم في الحقيقة يُعيدون إنتاج المنطق ذاته الذي يرفضونه؛ فالإصرار على نفي العروبة عن بعض السودانيين يوحي ضمنيًا بأنها قيمةٌ عُليا يُحاكَم الناس على ادعائها، أو يُكافَؤون إنْ ثبتت لهم. وبذلك يُسْقَط المكوِّن غير العربي تلقائيًا في مرتبةٍ أدنى، حتى لو لم يكن ذلك مقصودًا. وكأنَّ الرسالة غير المعلنة هي: (لو كنتم عربًا أصليين لما كان عليكم تثريبٌ في اضطهاد غيركم؛ أمَّا أنْ تدَّعوا العروبة فهنا تكمُن المشكلة).
بهذا المنطق يصبح صاحب (النسب الصحيح) في موقع البراءة حتى لو مارس القهر والهيمنة، بينما يُحاكَم مَن يستعرِب على زيفه. لكن الأنساب لا تمنح شرعيةً ولا تُسوِّغ اضطهادًا؛ فالظلم ظلم، سواء صدر عن عربي أو إفريقي أو أيّ انتماءٍ آخر. والأَوْلى أن يُرسَّخ مبدأ أن الجلاَّبة ليسوا بأفضل أو أحقّ من غيرهم حتى لو ثبت بالدليل القاطع أنهم قرشيُّون أقحاح. وإذا كان الجلاَّبة اليوم في خانة المحاسبة، فلا ينبغي أن يُحاكَموا لأنهم يرون أنفسهم عربًا؛ بل بسبب نهجهم وممارساتهم التي تأسَّست على هذا التصوُّر.
ولنا أن نتساءل: إذا قُدِّر لأيِّ مجموعةٍ إثنية أخرى غير مستعرِبة أن تتحكَّم في الدولة، وتستأثر بالثروة والسلطة، وتفرِض ثقافتها على بقية المكوِّنات، فهل سيحاسبها النقَّاد على سياساتها الظالمة مباشرةً، أم سينصرفون إلى الجدل العقيم بشأن (أصالة) هُويَّتها أو (زيفها)؟ فإذا كانت الإجابة أنهم سيتَّجهون مباشرةً إلى مساءلة المظالم لانتفاء عامل العروبة، فهذا يعني أن الذين ينشغلون اليوم بمحاولة تجريد الجلاَّبة من عروبتهم يهدرون الوقت والجهد ويضيعون البوصلة، بدلاً من التركيز على المبدأ الأساسي المتمثِّل في أن الانتماء العرقي أو الثقافي مهما كان لا يمكن أن يكون ذريعةً للتفوُّق والسيطرة.
لا يكمُن المدخل الصحيح إذن في الانشغال بنزع العروبة عمَّن يقولون بها أو إثباتها لهم، بل في تفكيك الاعتقاد بأن العِرق أو اللغة أو الثقافة يمكن أن تكون أساسًا للامتياز. عندها فقط يمكن أن يتهيأ الجو لنقاشٍ هادئ وموضوعي بشأن قضية الهُويَّة بعيدًا عن الشحن العاطفي والمعارك المجانيَّة التي تمزِّق النسيج الوطني أكثر ممَّا تصلحه. وهنا تجدُر الإشارة إلى أن الهُويَّة ليست من المحظورات (taboos)، لكن مكانها الصحيح هو سوح البحث العلمي الرصين، حيث تسود المقاربات العلمية البعيدة عن الأهواء والعواطف، لا المنابر السياسية التي تتغذَّى على الاستقطاب والانفعال. كما ينبغي الانتباه إلى أن الهُويَّة ليست قالبًا جامدًا، بل تتشكَّل عبر الزمن وتتطوَّر بتفاعل الناس وانصهارهم وتجاربهم، ولا يمكن فرضها أو إنزالها دفعةً واحدة كما لو أنها قرارٌ إداري أو وصايةٌ فوقيَّة.
الخلاصة، أن العدالة لن تتحقَّق بتمزيق (شهادة الميلاد العِرقيَّة والثقافيَّة) لأحد، بل بترسيخ مبدأ أنْ لا عرق أفضل من عرق، ولا لغة أو ثقافة أحقّ من أخرى بالسيادة، وبإرساء أسس العدالة، وردِّ المظالم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. أما الاستغراق في مطاردة (شبح العروبة)، فلن يقود إلا إلى الانزلاق في حلقةٍ مفرغة تستنزف الطاقات وتستنسخ الأزمة بلا نهاية؛ فالمشكلة ليست في العروبة ولا في نفيها، بل في الظلم الذي يُسوَّغ باسمها.
