محمد يوسف العركي
في خضم تسارع عجلة الحياة اليومية وتلاشي الحدود الجغرافية التقليدية أصبحت مصادر المعرفة والتبادل الثقافي متاحة للجميع، حيث تتأثر ثقافاتنا وتُؤثّر بدورها في هذا المشهد العالمي المتغير. هذه الديناميكية تضعنا أمام تحدٍ كبير الا وهو كيف نحافظ على موازين قيمنا الثقافية الأصيلة من أن تتآكل؟ وهنا يبرز مفهوم استشراف المستقبل كمنظور حيوي وضروري للعمل الثقافي.
بداية قد يختلط الأمر على البعض في التفريق بين استشراف المستقبل والتخطيط الاستراتيجي، لكن الفروقات الجوهرية واضحة وإن كانت العلاقة بينهما تكاملية. فاستشراف المستقبل أشبه ببوصلة ترصد احتمالات الأفق البعيد لمدى قد يصل إلى خمسين عاماً، وهو لا يضع خططًا تنفيذية بقدر ما يهدف إلى فهم السيناريوهات المحتملة، مُمهدًا الطريق للاستعداد للمستقبل بدلًا من مجرد التكيف معه.
أما التخطيط الاستراتيجي فيُعد خارطة طريق تركز على الأهداف متوسطة المدى، تتفرع منها أهداف قصيرة الأجل وصولًا للخطط السنوية، مرتكزًا على بيانات واقعية ومُتفاعلًا بشكل مباشر مع الحاضر.
ومكمون العلاقة بينهما تتمثل في أن استشراف المستقبل يمد التخطيط الاستراتيجي بالرؤى والمعلومات الضرورية مانحًا إياه المرونة والقدرة على التكيف مع المجهول.
إنّ التسارع الهائل في حياتنا ألقى بظلال واضحة على المجال الثقافي، مُخلفًا وراءه تحديات يمكننا ان نشير لبعض منها، مثل التسارع الثقافي من خلال المد المتواصل للأفكار والقيم عبر العولمة ومنصات التواصل الاجتماعي (والتي أثرت إيجابًا وسلبًا) وتأثيرها على أنماط الإنتاج والاستهلاك الثقافي وغير بعيد عن ذلك نجد التطور المتسارع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. هذا فضلاً عن ظهور الثقافات الفرعية وتغير أنماط السلوك الثقافي العام. إضافة لضعف الارتباط بالهوية الوطنية لدى الكثير من الأجيال الجديدة، وتأثر القيم والعادات والتقاليد المحلية بالثقافات الوافدة مما يشكل تحدياً متصلا للهوية والوعي الوطني وصولاً للصناعات الثقافية المحلية.
كل هذه التحديات تستدعي تدخلًا استباقيًا من خلال مساهمات دراسات المستقبل في تحصين العمل الثقافي الوطني من عدة زوايا.
نذكر منها هنا صون الهوية الوطنية من خلال القراءة العميقة للسيناريوهات المتوقعة، بحيث يمكننا تصميم برامج ومبادرات ثقافية تستشرف المستقبل وتُعزز الانتماء والولاء الوطني. وكذلك لابد من الاستفادة القصوى من التكنولوجيا لتوثيق ونشر التراث بطرق مبتكرة. وتشجيع وتحفيز الابتكار الثقافي بحيث يفتح استشراف المستقبل آفاقًا جديدة للإبداع في الفكر، الثقافة، الفنون، والتراث، وهو ما يساعد على المزج بين الأصيل والمعاصر دون أن نفقد بصمتنا وهويتنا الثقافية. كما انه لابد ان نشير الى قضية بناء القدرات الثقافية والتي تلعب الدراسات المستقبلية دورًا حيويًا في تأهيل الكوادر للتعامل مع التحديات القادمة، وهناك حاجة ماسة لتطوير برامج تعليمية تدعم التفكير الاستشرافي في المجال الثقافي على وجه الخصوص. فالتنبؤ واستشراف المستقبل يُسهم بشكل أساسي في تحديد التحديات المحتملة والتعامل معها قبل أن تتفاقم.
ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ فإنه من المهم جدا عدم غياب صناعة المحتوى الثقافي المُلهم عبر انتاج محتوى ثقافي يواكب التوجهات المستقبلية ويستوعب التغيرات المتسارعة وهذا كله يتطلب بالضرورة وجود سياسات ثقافية مرنة وقادرة على التكيف.
إن تبني استشراف المستقبل باعتباره أحد الأدوات الأساسية في الثقافة هو السبيل لضمان استدامة وتطور العمل الثقافي الوطني فالمستقبل ليس قدرًا ننتظره، بل هو واقع نصنعه ونستعد له. ولتحقيق ذلك كله علينا أن نُعضد الجهود عبر تنظيم المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش المتخصصة في استشراف المستقبل الثقافي بمشاركة الجهات ذات الصلة المباشرة والمراكز البحثية والمؤسسات التعليمية كالجامعات، لنكون فاعلين حقيقيين في المشهد الثقافي العالمي، تاركين بصمةً ثقافيةً أصيلةً تحمل هويتنا وقيمنا.
استشراف المستقبل في العمل الثقافي
