أسامة عيدروس
الحلقة الأولى: سوناتا «ضوء القمر» وكونشيرتو (الإمبراطور)
شكلت لحظة خروج القائد العام للجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان من مباني القيادة العامة بوسط الخرطوم في يوم الخميس 24 أغسطس 2023، نهاية لحظة امتصاص الصدمة منذ اندلاع الحرب في 13 أبريل 2023م. البعد الاستراتيجي لهذه العملية كان في تحول القيادة العامة من موقع استراتيجي يشكل سقوطه ضربة قاصمة للقوات المسلحة قد تؤدي لانهيارها إلى مجرد موقع عسكري صمد في وجه المليشيا عندما كانت كثافة نيرانها وجنودها المدربين وعتادها في ذروته.
خرج رئيس مجلس السيادة إلى بورتسودان ليجد الدولة السودانية محاصرة تماما بصورة تشل قدرة الجيش السوداني ليس فقط على الصمود بل وتسارع بانهياره مع استمرار الضغط. وشهدت هذه الفترة سقوط أربع فرق في نيالا والجنينة وزالنجي والضعين في يد المليشيا المتمردة بعد خروج عبدالرحيم دقلو من العاصمة قانعا منها وجلب الكثير من المرتزقة من الحدود القريبة مع عتاد جديد. في هذه الفترة دافع جنودنا وضباطهم عن معسكراتهم في المدرعات والاشارة والمهندسين ووادي سيدنا والكدرو والقيادة العام وكان مرتبهم الحربي في بعض المعارك سبعة رصاصات وأقل مع الكثير من اليقين والايمان بالوطن. وخلال فترات هذه المعارك كان تسليحهم مباشرة من العدو الذي تساقط كالذباب على عتبات المعسكرات الحصينة بأبنائها من جنودنا البواسل والضباط الأوفياء. وكانت أقوى الملاحم تسطر بالفدائيين من أبناء سلاح الجو الذين غامروا بحياتهم وهم يطيرون بطائرات بلا صيانة وعديمة الأهلية للطيران رغم علمهم أن الرحلات قد تكون بلا عودة، وقد كانت في الكثير من الأحيان وفقدنا فيها شهداء من خيرة أبناء الوطن.
استفادت المليشيا من هذا الزخم وتمددت جنوبا لتجتاح الجزيرة وتصل الى سنجة وتقفز شرق النيل الأزرق الى السوكي والرهد مهددة باجتياح الشرق والوصول لبورتسودان. كانت هناك معيقات لوجيستية كثيرة صاحبت هذا الانتشار الواسع مما جعل المليشيا تعيد تنظيمها وتبدأ في حشد العتاد العسكري في جبل موية تمهيدا للوثبة القادمة والأخيرة في نظرها. وصاحب ذلك اكمال حصار الفاشر والبدء في الهجوم المكثف عليها في محاولة لاسقاطها والانفتاح بعدها شرقا نحو الولاية الشمالية. استراتيجية المليشيا الوحيدة ظلت هي الانفتاح والتمدد والانتشار والضغط المتواصل حتى يتحقق لها اجتياح كل حاميات الجيش والوصول لبورتسودان وكسر كل نقاط المقاومة والتسبب في انهيار الجيش والمقاومة الشعبية ليستسلم الجميع للجنجويد. ولهذا تركت المليشيا محاولاتها الفاشلة السابقة لاسقاط معسكرات الجيش في العاصمة الخرطوم وحولت نخبة من جنودها للدفاع متمرسين حول معسكرات الجيش في العمارات العالية من أجل إعاقة أي تحرك في المستقبل.
توقف المليشيا ومحاولتها لحشد العتاد في جبل موية وإعادة الترتيب والتنظيم أعطت الجيش الفرصة لالتقاط أنفاسه واستعادة زمام المبادرة. وفجأة تحول ميزان المعركة ومالت الكفة لصالح الجيش مع تسارع أحداث العبور من جسور أم درمان الى بحري والخرطوم وتبعها تحرير جبل موية واستعادة الرهد والسوكي وقري النيل الأزرق ثم تحرير سنجة والزحف من كل اتجاه وتحرير مدني وبعدها ملاحم تحرير ولاية الجزيرة وقراها والحصاحيصا والكاملين وتحرير مدينة بحري بالكامل وتحرير المصفاة وغك الحصار عن سلاح الإشارة والقيادة العامة وتحرير شرق النيل وانتقال المعركة إلى شرق النيل الأزرق وتحرير مدينة أم روابة والسميح والرهيد وفتح الطريق القومي إلى الأبيض وتحرير القطينة والتحام جيش المدرعات بالقيادة العامة والزحف من كل اتجاه لتحرير العاصمة الخرطوم. فيما كان قوات الصحراء تدمر قاعدة الزرق وتستلم المالحة والصياح وتتوسع دائرة تأمين الفاشر شيئا فشيئا.
لقد كان النصر نتيجة للصبر والمصابرة والجهد الدؤوب والتخطيط المستند إلى العلم. وكانت أولى الاستراتيجيات الناجحة في ترتيب سلم القيادة لينتظم الجميع تحت أوامر القائد العام وغرفة القيادة والسيطرة المركزية بينما تم تفعيل استراتيجية تعدد القيادة والسيطرة الميدانية ليصبح قادة العمليات واسعي الصلاحيات حسب تقدير الموقف وفرص استغلال النجاح. وتحولت كل رقعة مسرح العمليات إلى عزف متزامن تتحرك فيه القوات نحو أهداف محددة بينما كل قائد ميداني ينظم ألحان منطقته لتضفي على السوناتا أروع أغاني النصر.
(في الحلقة القادمة نكتب مزيدا من التفاصيل حول مآلات معركة الخرطوم وتفاصيل نهايات المعارك العسكرية واستراتيجيات انهاء الحرب)