علي عسكوري
نكتب هذه المقالات التاريخية عن فترة تاريخية حرجة مازال شهودها احياء. نكتب لاجل ان تعلم الاجيال الجديدة خلفيات الصراع والحقائق التى قادت لما يجري في بلادنا حاليا. فما يجري له علاقة مباشرة بما حدث في انتخابات 1986وما تلاها من احداث غيرت مجري تاريخ بلادنا وقادت لانفصال الجنوب. السبب في كل ذلك رفض حزب الامة القومى والجبهة الاسلامية (وقتها) لاتفاق الميرغني قرنق كما نوضح.
نكتب ايضا لإنعاش ذاكرة من حضروا تلك الانتخابات حتى يستطيعوا ان يفسروا موقف حزب الامة الحالي وتحالفه القائم مع المليشيا، والذكرى تنفع المؤمنين.
إن التاريخ ليس حدثا عابرا ينتهي بإنتهائه، انما سلسلة من تفاعلات وحلقات اجتماعية وسياسية متصله تترابط وتتداخل ووتقاطع حلقاتها، تنشاء عن كل فعل على مستوي قيادة الدولة التنفيذية حلقات وتفاعلات ونتائج تقود بدورها الى واقع وصراع جديد. فنحن مجتمع مثل المجتمعات الاخري تمضي علينا سنن الحياة ونواميسها كالاخرين.
في يوم 16 نوفمبر 1988، وقع السيد محمد عثمان الميرغنى رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي والراحل الدكتور جون قرنق اتفاقا للسلام قضي فيما قضي بوقف الحرب وتنظيم وعقد المؤتمر الدستوري. لو اكتفي السيد محمد عثمان الميرغني بذلك الاتفاق كإنجاز وحيد في حياته السياسية لكفاه كأكبر رجل سلام امتاز ببصيرة ورؤية مستقبلية نافذة رأت المخاطر المحدقة بالوطن وعملت على حمايتها من التمزق والسقوط.
رغم ان الاتفاق لم ينفذ لأسباب نتناول بعضها في هذا المقال، رغم ذلك، يظل السيد محمد عثمان اكبر داعية سلام سعي بكل وزنه السياسي وقيادته ومن خلفه حزبه و عشرات الملايين من المواطنين في شمال السودان وجنوبه (وقتها) لوقف نزيف الدم وتحقيق السلام، لكن القوى السياسية قصيرة النظر الحريصة على مصالحها الذاتية، رفضت الاتفاق و بذلك ادخلت البلاد في متاهة لا تزال فصولها المأساوية تتداعي.
حين وقع ذلك الاتفاق كان عمر الحرب خمس سنوات ونصف بالضبط (16 مايو 1983- 16 نوفمبر 1988) وكان نطاق العمليات مايزال محدودا. عامان ونصف من فترة الحرب تلك كانا تحت الحكم الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء السيد الصادق المهدى عليه الرحمة. تجب الاشارة الى ان رئيس الوزراء، رغم التقائه لقرنق، لم يطرح اى مبادرة للسلام الى ان اسقط انقلاب الجبهة حكومته!
جاء إتفاق الميرغني / قرنق كعلامة فارقة في تاريخ السودان، وما يحدث الان في بلادنا من قتل ودمار بدأ برفض ذلك الاتفاق واجهاضه.
نكتب الان ونحن شهود على تلك الاحداث حتى تعلم الاجيال الجديدة التى لم تكن قد ولدت او لم تبلغ مرحلة الوعي الضرورى لفهم الاحداث من هم الذين ادخلوا بلادنا في جحر ضب خرب سيصعب خروج البلاد منه متماسكة او موحدة، اذ تركت تلك الاحداث حبل مستقبل البلاد السياسي على الغارب.
كان عدد نواب البرلمان المنتخب 301 نائبا، نال حزب الامة منها 101 نائب فقط، ونال الحزب الاتحادى 63 نائبا بينما نالت الجبهة الاسلامية 51 نائبا (منها 23 دائرة لما يسمى بدوائر الخريجين وهى دوائر مضروبة لانها تخالف الدستور وتخالف المبادىء التى تقوم عليها الديمقراطية one man one vote وللقارىء ان يتخيل فوضي دوائر الخريجين عندما يعلم – مثلا- ان السيد على تميم فرتاك نال 45 صوتا فقط واصبح نائبا في البرلمان بكامل الحقوق. تلك كانت بعض من حيل الاسلاميين ليصلوا السلطة بالخداع)(للمزيد عن تلك الانتخابات راجع كتابي حكاية الدجل).
اضافة لاعداد النواب اعلاه هنالك بالطبع نواب من احزاب صغيرة من جنوب السودان ومن مناطق اخري ومستقلين نالت 45 نائبا.
ينص الدستور وقتها على ان عدد مقاعد البرلمان301 مقعدا، لكن نتيجة للحرب هنالك 41 دائرة في جنوب السودان لم تجرى فيها الانتخابات، اى حوالي 14% من مقاعد البرلمان. طوال تلك الفترة لم يصدر اى تعديل دستوري ينص على ان الحكومة تنال شرعيتها من برلمان عدد اعضائه 260 نائبا (عدد الدائر التى جرت فيها الانتخابات)، وظل الحال كذلك الى ان اسقط انقلاب الاسلاميين حكومة السيد الصادق.
ماذا يعنى هذا؟ يعنى ان رئيس الوزاء لينال شرعيته عليه الحصول على اصوات 151 نائبا، وليس 131 نائبا.
اذن، فحزب الامة لم يحرز اغلبيه تمكنه من الحكم منفردا بالنظر لعدد نوابه سواء ان اخذت جملة ال 260 عضوا او 301 عضوا. ولذلك فالزعم بأن حزب الامة حزب الاغلبية زعم باطل لا تسنده حقائق الانتخابات.
كانت تلك هي الحقائق التى افرزتها انتخابات 1986، والحال كذلك لن يتمكن اى حزب من الحكم منفردا. كان يتوجب على رئيس الوزراء السعي الجاد والحثيث لايقاف الحرب وتحقيق السلام حتى يكتمل التصويت في ال 41 دائرة في جنوب السودان. كان ذلك سلوكا يقتضي على اى رئيس وزراء منتخب ان يبذل قصاري جهده لتحقيقه، ليس فقط لوقف الحرب، بل لتكتمل شرعية مؤسسات الحكم خاصة البرلمان.
بالطبع لم يفعل رئيس الوزراء ذلك لامر واضح يتعلق ببقائه في رئاسة الوزارة لأن اكمال الانتخابات في تلك الدوائر ال 41 يعنى فقدانه للسلطة! فلو تحقق السلام وقامت انتخابات جزئية في ال 41 دائرة من الراجح ان تذهب كلها للحركة الشعبية، فان الحركة الشعبية وحليفها الاتحادى الديمقراطي سيكون لهم نواب اكثر من حزب الامة (104) نائبا. وان اضفنا لهم النواب الاخرين من الاحزاب الصغيرة الاخرى والمستقلين يصبح العدد 149 نائبا بينما للامة والجبهة مجتمعين 152 نائبا. تجدر الاشارة هنا الى ان نائبين من دارفور انتخبوا للبرلمان كمرشحين للجبهة الاسلامية، اختلفا معها وغادراها للحزب الاتحادى واتخذوا مقاعدهم وسط نوابه. هذه الخطوة الخطيرة الحساسة غيرت الحسابات وفتحت الطريق لتغيير في السلطة التنفيذية. وكنتيجة لتحول النائبين تقلص عدد نواب الامة والجبهة الاسلامية من 152 الى 150 وزاد عدد نواب الحزب الاتحادى وحليفته المفترضة الحركة الشعبية الى 151 أي اصبحوا اغلبية ومن حقهم تشكيل الحكومة، و بهذا كان من الممكن (في حال تنفيذ اتفاق الميرغنى/ قرنق) واكمال الانتخابات في ال 41 دائرة ان يصبح قرنق رئيسا للوزراء من واقع غالبية النواب في البرلمان المؤيدن له ولحلفائه.
هنا تجدر الاشارة الى فشل قيادات من الصف الاول للجبهة الاسلامية في نيل ثقة الناخبين. فزعيم الجبهة الاسلامية الراحل الترابي ورغم ما احدثه من تاثير كبير في الحياة السياسية السودانية لم ينال ثقة الناخبين طوال حياته فقد خسر في المرتين التين ترشح فيهما في انتخابات ديمقراطية، والمؤلم اكثر انه خسر في المرتين امام مرشح للحزب الاتحادي الديمقراطي! اذن خسر الترابي في انتخابات 1986 ولحقه في الخسارة نائبه الدكتور على الحاج الذى ترشح في دائرة جغرافية في دارفور، اما ابراهيم السنوسي فقد تجنب الدوائر الجغرافية واختار دوائر الخريجين كى يصبح نائبا في البرلمان( للمزيد عن تحليل انتخابات 1986 وعلاقتها بانقلاب الجبهة الاسلامية راجع كتابي: حياكة الدجل). هذا موقف يكشف ضعف ثقته في الفوز بثقة الناخبين، اذ من غير المقبول لقائد سياسي ان يترشح في دوائر الخريجين، لكنه مبدأ الغاية تبرر الوسبلة..!
ملاحظة اخري تجدر الاشارة لها في تلك الانتخابات وهي ان الدوائر ال 28 التى فازت بها الجبهة الاسلامية منها 13 دائرة في الخرطوم. وهذا يعنى ضعف انتشار الجبهة في ولايات السودان بمعنى انها ورغم ما بذلته من مجهود ووعود بتطبيق الشريعة وما الى ذلك ظلت حزبا صفويا. يشار ايضا الى ان الجبهة الاسلامية ورغم فوزها ب 13 دائرة في الخرطوم الا ان عدد من صوتوا لها (186) ألف اقل من عدد من صوتوا للحزب الاتحادى (192,387)، و كان الحزب الاتحادي قد فاز ب 9 دوائر جغرافية في الخرطوم.
بالاخذ في الاعتبار كل هذه التفاصيل فإن تحقيق السلام كان يعني بالضرورة خسارة رئيس الوزراء لموقعه.
اما خيار الذهاب لانتخابات جديدة في كل السودان في حالة قبول رئيس الوزراء باتفاق الميرغنى قرنق فيعنى الغاء دوائر الخريجين (تخسر الجبهة الاسلامية 23 دائرة مضروبة). ومع ارتفاع شعبية الحزب الاتحادي بصورة كبيرة بعد توقيع الاتفاق كانت كل التوقعات تشير الى ان الحزب الاتحادى والحركة الشعبية سيكسبانها ربما بفارق جيد من منافسيهم، بالنظر لقدرات قرنق وبالنظر لما حققه السيد محمد عثمان الميرغني من تحقيق السلام كمكسب سياسي غير مسبوق.
بالطبع كان رئيس الوزراء ملما بكل هذه التفاصيل وهو يجرجر اقدامه لمدة ثمانية اشهر لقبول اتفاق السلام الذى اتى به الميرغني.
حاصرت اتفاقية السلام رئيس الوزراء حصار السوار للمعصم. وكان المتاح امامه اما ان يقبل الاتفاق ويخسر موقعه لفترة قد تطول كثيرا، اما ان يواصل الحرب.
في احدى تصريحاته قال الراحل الترابي: ” انه ناقش مع رئيس الوزراء كل الخيارات وكان الانقلاب افضلها- راجع كتابي)!
وهكذا اضاع رئيس الوزراء ثمانية اشهر ليمكن صهره وحليفه من التجهيز للانقلاب ومواصلة الحرب للخروج من المأزق الذى وضعهم فيه اتفاق الميرغنى قرنق..!
يتبع
هذه الارض لنا