إنتخابات ملاوي: تجربة جديرة بالتقريظ

السفير عطا المنان بخيت

جمهورية ملاوي دولة صغيرة حبيسة ضمن دول مجموعة الجنوب الأفريقي، كانت محمية بريطانية حتى استقلالها فى العام 1964. بالرغم من أن البلاد لم تشهد إنقلاباً عسكرياً في تاريخها، إلا أن تجربة الديمقراطية والتعددية الحزبية فيها، قريبة العهد، إذ بدأت فى العام 1994، ولكن سرعان ما تعززت التجربة الديمقراطية بفضل استقلالية ونزاهة القضاء والنظام العدلي فى البلاد.
حظيت الإنتخابات الرئاسية التي جرت منتصف هذا الشهر، بإهتمام واسع على مستوى القارة والفضاء الدولي المهتم بأفريقيا، حيث جرت الإنتخابات بهدوء وبشفافية نادرة الحدوث فى أفريقيا، واعترف الرئيس شاكويرا بهزيمته وهنأ غريمه بالفوز. والسؤال هو لماذا أعتبرت ديمقراطية ملاوي نموذجية، وجديرة بالتقريظ والتطبيق؟ وما علاقة ذلك بنزاهة النظام العدلى في البلاد؟
للوقوف على تجربة ملاوي المتميزة فى تنظيم إنتخابات نزيهه وشفافة لا بد من العودة إلى للعام 2019، حيث جرت إنتخابات رئاسية تنافس فيها الرئيس حينها بيتر موزاريكا، وزعيم المعارضة حينها لازاروس شاكويرا. أعلنت لجنة الإنتخابات فوز الرئيس موزاريكا، لولاية ثانية، وأدى الرئيس القسم وباشر مهامه الرئاسية. بينما رفض زعيم المعارضة قرار لجنة الإنتخابات، وتقدم بشكوى للمحكمة الدستورية العليا، وقدم دفوعات قوية تؤكد التجاوزات والتزوير الواسع في الإنتخابات. قبلت المحكمة الدستورية الشكوى وبدأت النظر في القضية.
كنت حينها فى زيارة لملاوي، وشاهدت المسيرات التى كانت تنظمها المعارضة في العاصمة لولونغواي، وتنتهى عند مقر المحكمة الدستورية، واستمعت في الإعلام المحلي لخطابات زعيم المعارضة الذي كان يؤكد أنه يثق في نزاهة القضاء في بلاده وأنه سيقبل قرار المحكمة الدستورية. ونظراً لما أعلمه عن صراع المعارضة والحكومة في أفريقيا حول نتائج الإنتخابات، فقد كنت واثقاً أن المحكمة الدستورية ستفتي بما يحب الرئيس ، وأن الحملة التي تقودها المعارضة ستنتهي بتوافق مع الرئيس ومنحها عدداً من مقاعد الوزارة، كما يحدث دائما فى أفريقيا. لكن كان للمحكمة الدستورية رأى آخر.
فبعد أكثر من ستة أشهر من إعلان نتيجة الإنتخابات، أصدرت المحكمة الدستورية فتواها القانونية الملزمة، كتبت الفتوى بتفاصيلها الدقيقة في مجلد حوى خمسمائة صفحة، وعقدت المحكمة الدستورية مؤتمراً صحفياً مباشراً، استغرق عشر ساعات مستمرة، قرأ خلاله القضاة الخمسة فتواهم القانونية، وقرروا بطلان الإنتخابات التى جرت، وألغت المحكمة قرار لجنة الإنتخابات بفوز الرئيس موزاريكا، وقررت إعادة الإنتخابات الرئاسية مرة أخرى.
كان وقع قرار المحكمة الدستورية فى ملاوي صاعقا، وتردد صداه على امتداد القارة، بل على امتداد العالم. حينها سرت شائعات وتحليلات كثيرة، أن الرئيس لن يتنازل عن كرسي الرئاسة بعد ستة أشهر من أداء القسم، وذهب آخرون أن الرئيس سيعيد تشكيل المحكمة الدستورية بقضاة موالين له، بل ذهب البعض إلى أن القضاة الخمسة ربما يتعرضون للإغتيال من مناصري الرئيس والمستفيدين من حكمه. ولكن كل ذلك لم يحدث.
قبِل الرئيس موزاريكا حكم المحكمة الدستورية، وأعيدت الإنتخابات الرئاسية، وللمفارقة فاز زعيم المعارضة بفارق ضخم، وقبل الرئيس حكم الصناديق وإنتقلت السلطة بسلام إلى الرئيس المنتخب. وهكذا قدمت ملاوي الدولة الحبيسة الصغيرة تجربة فريدة فى الشفافية والديمقراطية ونزاهة وإستقلالية القضاء. وهى تجربة لم تحدث من قبل فى القارة التي مزقها صراع السلطة، عبر الصناديق أو عبر فوهات البنادق.
لذلك فإن الإنتخابات الرئاسية التى جرت منتصف سبتمبر هذا العام، تميزت بالهدؤء، وحسن النظام لأن الجميع كان مطمئنا بأن هناك سلطة قضائية شفافة ومستقلة ونزيهه، يمكن اللجوء إليها، والوثوق بحكمها. تجربة ملاوي تؤكد أن أى دولة تريد أن تبني نظاماً ديمقراطياً سليماً وشفافاً وآمناً، يجب أن تبني أولا نظاماً قضائياً نزيهاً ومستقلاً وشفافاً، يكون ضامنا للعملية الديمقراطية، وحصنا يمنع التجاوزات وحكما يرد الحقوق. وهذه تجربة نحن فى السودان أشد ما نكون حاجة إليها، ونحن نتطلع إلى وضع لبنات نظام ديمقراطي سليم. عسى أن يضع حداً لصراع السلطة الذى أقعد بلادنا منذ الإستقلال.

Exit mobile version