رأي

إلى صديقي البوني الذي يحاصره الأوباش الآن. سلمت ياحبيب.

فيما أرى

عادل الباز

“بوني” العرفتو.. والقريتو.. والجابوهو لي

إلى صديقي البوني الذي يحاصره الأوباش الآن. سلمت ياحبيب.

(1)

سألتُ يومها صديقي عبدالمنعم قطبي (شآبيب الرَّحمة على قبره) إن كان يعرف الدكتور “البُوني”، فضحك رحمة الله عليه وقال لي: «بجيبو ليك». كنتُ وقتها الأمين العام لبيت الثقافة.. يومها كنتُ شغوفاً بكتابات “البوني” وعجلاً للقائه، كنتُ ولا أزال معجباً بـ“البوني” ككاتب نسيج وحده، فالطريقة التي يكتب بها لا تشبه أحداً من الكُتَّاب.. لم تمضِ إلاَّ أيامٍ حتى التقيتُ “البوني”، وكان ذلك في منتصف تسعينيات القرن الماضي. “قُطبي” كان واسطة عقد نضيد بين المُثقفين والكتاب، إذ ظلَّ يصلهم ببعضهم بعضاً ويعمل على بناء جُسُور التواصُل بينهم إبان رئاسته لتحرير مجلة ‘الملتقى’ في عهدها الزاهي.

 

(2)

بعدها لم نفترق ولم نختلف.. جمع بيننا الأُنسُ الجميل والسياسة والثقافة والأدب والغناء وحُبُّ الهلال ومُتعة الضحك.. “البوني” أمثاله قليلون في نقاء سريرته وتواضُعه وحُبه للناس، لم يزد “البوني” علمه الغزير إلاَّ تواضعاً، وما زاده إعجاب الناس به ألاَّ محبَّةً لهُم. صداقاته عابرة للأجيال والأفكار والأحزاب، لم تمنعه آراؤه من التواصُل مع الجميع، ولم يعرف ضيق أُفق المُنتسبين للأحزاب، فلم يُعادِ أحداً، مُستقلٌ، مُتسامحٌ، وناقدٌ للحُكومة والمعارضة. كان “البوني” يخشى ولا يزال، أن تصبح البلاد كـ“كلب النقاقير” أو “ديك المسلميَّة”، أو مثل “عربة ود الدايش”، هل تذكرون تلك القصص؟!  تجدونها في المجلد الثاني من كتاب “حاطب ليل”.

 

الضحك هو مفتاح البروف.. يضحك “البوني” على نفسه وعلى الآخرين، مُعتذراً “لولا الضحك كان المَغَصَة كتلتنا”.. ملاذنا الوحيد والجبل الذي نأوي إليه من بُؤس الغثاء السياسي وكآبة المنظر الاقتصادي هو الضَّحك.

 

(3)

أكرمني الله على أيام بيت الثقافة بصُحبة البروف أحمد الطيِّب زين العابدين (التشكيلي)، رحمة الله عليه، ود. عبدالله علي إبراهيم، ود. البوني.. ثلاثتهم على ما بينهم من اختلاف جمعتهم “السُّوداناويَّة”، وهي رؤية ثقافيَّة لأحمد الطيِّب زين العابدين، ولكن “البوني” وعبدالله كانا يمارسانها فعلاً عبر كتاباتهما.

 

اختار “البوني” لغة صحفيَّة مُستلة من قاموس يخُصَّه وحده، قاموسٌ ضاج بالقصص والحكايات ويفيض بالمُفردات السُّودانيَّة. ترفد تلك اللغة ذاكرة غنيَّة بالغناء والمعاني العميقة. أسهمت كتابات “البوني” في تعريف القُرَّاء بجمال الأغنية السُّودانيَّة، كما أسهمت معرفته العميقة بالعلوم السياسيَّة في تجسير العلاقة بين الأكاديميَّات والقُرَّاء الذين تصلهم مادة التحليل السياسي في قالب خفيف الظل عميق الرُّؤى.

“البوني” مثقفٌ عُضوي، وبحسب غرامشي، المُثقف العُضوي هو المُرتبط بالجماهير والمُندمج معها في لغتها وأحلامها وثقافتها والمُعبِّر عن أحلامها في الإصلاح.

“البوني” يعرف لغة الرندوك ويتسلق المواصلات العامَّة، ويشجِّع الهلال، ويغني مع ترباس “جاي تفتش الماضي”.. “د. البوني” مكتول في حوش “إنصاف مدني”، ويكتب عن التغيير في مشروع الجزيرة، ويحمل الطوريَّة ليسقي الحوَّاشة، ويسرع للمنزل لكتابة عموده اليومي حول آخر التطوُّرات السياسيَّة في السُّودان والعالم.

 

“البوني” يسبر أغوار السياسة والغناء والحياة الاجتماعيَّة، لا يحتطب ليلاً بلا هُدى كما يفعل الكثيرون بلا علمٍ ولا هُدى ولا كتاب مُنير، بل على علم وقراءات مُتنوِّعة، لم يلحق باحتطاب “البوني” غثاءٌ قط.

 

(4)

في الأسبوعين الماضيين ضجَّت الصُّحُف والأسافير بخبر اعتزال “د. البوني” الكتابة اليوميَّة، فجزِع كثيرون وكتبوا بمحبَّة عن “د. البوني”، وهو يستحقها.. على أنني لم أجزع من إذاعة النبأ، فكثيرٌ من الكُتاب الكبار أعلنوا توقفهم عن الكتابة في فترة ما من حياتهم، إلاَّ أنهم عادوا أكثر عطاءً، ولم يستطيعوا مغادرتها نهائياً.. أحمد بهاء الدين فعلها ومحمَّد حسنين هيكل استأذن القرَّاء ليغادر منذ عقد من الزمان، ولكن عاد مرَّة أخرى عبر نوافذ عديدة.

 

هناك من غادر الكتابة اليوميَّة الرَّاتبة ولكنه ارتبط بالصَّحافة عبر مقالٍ أسبوعي.. آخرون اختاروا أن يذهبوا للرواية باعتبارها أكثر مقدرة على التعبير برُؤى أعمق عن السياسة والمجتمع (غارسيا ماركيز وميلان كوندرا وأورهان باموق) وغيرهم. لا يمكنك الإقلاع عن الكتابة ولا التوقف عن كونك كاتباً إلاَّ أن تتوقف حياتك.. ليس بوسع “البوني” ابتداع بداياتٍ جديدة حتى لو زَرَعَ السنمكَّة أو أقام أحواضاً للسمك خالية من الورل!!

 

(5)

تجدني مُطمئناً لعودة “البوني” أكثر توهُّجاً عبر أشكال كتابة متعدِّدة، فتجربة “البوني” في الكتابة نضجت، وهذا زمان اتصال عطائه لا التوقف. “البوني” في سن الإزهار، وهو الزمان الذي يهدي فيه الكُتَّاب عصارة تجاربهم وما استقوه من خبراتٍ إلى الأجيال القادمة، لا يمكننا قبول هدر تلك الثقافة والمعلومات الثرة والرُّؤى الثاقبة وطرائق الكتابة الجزلة التي تميَّز بها “د. البوني”، عبر رحلة طويلة احتطب فيها صنوفاً شتى من المعارف.

 

يا “بوني”، أنت لسَّا في عز الشباب، ليه تقول انتهينا وتوقفنا (بالمناسبة إبراهيم عوض وحتى يوم زيارتك له في حي العرب مع علم الدين هاشم، كان أكبر منك بكثير، ولكنه لم يتوقف عن الغناء الجميل).. هذا هو الزمان الذي نحتاجك فيه وندَّخرُك له.. يا “بوني”: أجمع ما احتطبته وانثره واجعله نوراً لأجيالٍ قادمة.. ولا تشعل فيه نيران التوقف النهائي فيذهب هباءً.

 

*ملحوظة: هذا المقال مختار من بين مجموعة من المقالات ضمن كتاب تجديف عذاب صدر للكاتب هذا الشهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى