إلى رئيس الوزراء: الإدارة الذاتية… قنبلة موقوتة تحتاج حلاً عاجلاً

مهند عوض محمود
منذ أن اضطرّ السودانيون إلى مواجهة ظروف قاسية وغير مسبوقة، برزت أشكال متعددة من «الإدارة الذاتية» داخل الأحياء والمدن والقرى، كاستجابة طبيعية لسد الفجوة التي خلفتها الأوضاع المعقدة. وقد أثبت الشعب السوداني، كالعادة، قدرته العظيمة على تنظيم حياته بنفسه وقت الشدة، فظهرت لجان أهلية ومبادرات شبابية تدير الأسواق وتراقب الأسعار وتؤمن الأحياء وتوزع الخدمات وتساعد في حل النزاعات.
في مدن مثل الأبيض وغيرها بشمال كردفان، تولت هذه اللجان توزيع السلع الحيوية وضبط الأنشطة التجارية وضمان الأمن، وفي بعض قرى الجزيرة استعادت المجتمعات نُظُمها التقليدية مثل مجالس الشيوخ أو الحواكير لإدارة شؤون الناس. حتى في بعض أحياء الخرطوم التي استقر بها الوضع مؤقتاً، نظم السكان لجان تأمين محلية لضبط الأوضاع الداخلية وحماية الممتلكات.
ورغم أن هذه الأدوار أظهرت معدناً إنسانياً نفخر به جميعاً، إلا أنها قد تتحول مع مرور الوقت من ضرورة مؤقتة إلى بذور كيانات موازية يصعب تفكيكها لاحقاً، إذا لم تدار بحكمة وبإطار قانوني ومؤسسي واضح. ذلك لأن استمرار هذه الهياكل بلا دمج حقيقي مع الدولة قد يفتح الباب أمام استغلالها من جهات منظمة أو جماعات ذات مصالح خاصة تسعى لاختراق المجتمعات وتحريكها في اتجاهات تخدم أهدافاً ضيقة.
ولعل من أقوى الأمثلة الإقليمية التي يمكن الاتعاظ بها ما جرى في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي، حيث تحوّلت «اللجان الثورية» التي أنشأها النظام لضبط المجتمع إلى مجموعات نفوذ محلّية انفلتت من عقالها مع غياب الدولة. بدلاً من أن تكون هذه اللجان وسيلة لتنظيم حياة الناس، أصبحت هياكل تستقطب الولاءات القبلية والمناطقية وتدير الأحياء بأسلوب أمر واقع، وتحوّلت إلى واجهات لصراعات مسلّحة وتدخلات خارجية عمّقت الانقسامات. وهو مشهد يُظهر بوضوح خطورة ترك أي إدارة ذاتية بلا إطار جامع.
وما يزيد من حساسية هذا الملف أن مثل هذه الكيانات تصبح هدفاً سهلاً للاختراق الأمني، إذ قد تتسلل إليها عناصر متطرفة أو مجموعات سياسية او عصابات منظمة، أو خلايا تستغل علاقاتها داخل المجتمعات وتوظيفها لصالح جهات أخرى، مما يُضاعف المخاطر ويهدد الاستقرار في المدى المنظور.
في المقابل، تثبت تجارب أخرى أن الإدارة الذاتية يمكن أن تتحوّل إلى فرصة عظيمة لو أديرت ضمن مشروع وطني واضح. فبالنظر إلى رواندا التي نجحت بعد الحرب الأهلية المدمرة في دمج المبادرات الشعبية واللجان الأهلية ضمن منظومة الحكم المحلي الرسمية، وأوجدت صيغة عادلة لمشاركة الناس في إدارة مناطقهم دون السماح ببروز كيانات موازية أو جزر مغلقة. فصار الحكم المحلي رافعة تنموية حقيقية ووسيلة لتعزيز وحدة الدولة لا لتفتيتها.
إن رقعة الحرب قد انحسرت بفضل صمود شعبنا وتضحيات قواتنا المسلحة والقوات المساندة والمستنفرين، واتسعت المساحات المحررة التي تنتظر عودة الدولة بكل خدماتها وإداراتها. لذا فإن التحرك العاجل لإعادة هيكلة هذه المبادرات وإدماجها ضمن الهياكل المؤسسية، وإشراك المجتمعات المحلية في التخطيط والتنفيذ، سيحوّل هذه الطاقة الشعبية إلى أداة بناء حقيقية تعيد الثقة بين المواطن والدولة.
دولة الرئيس، إن معالجة هذا الملف لم تعد مسألة إدارية بل أصبحت قضية أمن قومي بامتياز، ومسؤوليتكم الوطنية اليوم أن تسابقوا الزمن لإزالة هذا اللغم قبل أن يتحوّل إلى قنبلة يصعب تفكيكها. إن الشعب السوداني الذي صبر وضحّى قادر على أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء دولة عادلة حديثة، متى ما وجد قيادة واعية تلتقط هذه اللحظة التاريخية.
نقلا عن موقع “المحقق”



