إلتفاف الشعب حول جيشه: كيف نستثمر في وحدة الشعور والهدف؟
الصاوي يوسف
يُحظى الجيش السوداني بإجماع شعبي وتقدير يكاد يكون إجماعيا، لا يشذ عنه إلا القلة من عملاء الخارج أو من يخطط للسيطرة على البلاد دون حق. ولذا فقد احتمى الشعب في كل مسيراته ومواكبه، عبر التاريخ، بالجيش، طالباً تدخله وحمايته.
والآن، والشعب والجيش يخوضان معركة مصيرية ووجودية، ضد عدوٍ مراوغ، متعدد الهويات واللافتات، فهو غزو أجنبي، واعتداء قبلي، وعشائري، وهو تمردٌ عنصري، وجهوي، وهو يسعى لا للسلطة فقط ككل الانقلابات والتمردات، بل هو يسعى لتدمير كل شئ: البشر والعمران والاقتصاد والبنية التحتية والدين والثقافة والوجدان والوحدة والتاريخ، وكل شئ.. ثم هو يسعى لإخراج الشعب كله من بلاده ومن بيوته ومدنه وقراه، واحتلالها، واستبدال السكان بآخرين مجلوبين من أقاصي الصحراء والساحل، وأسيادٍ تنز أيديهم بالبترودولار وقلوبهم بالكراهية والحقد، وأجنداتهم بعبادة الأجنبي والخضوع لكل مآربه وخططه وأطماعه. يخوضان معا إذن هذه الحرب، ويلتف الشعب حول جيشه، وهو يراه الحامي والمنقذ الوحيد، والأمل الأخير الباقي، كما لم يلتف من قبل. وهي لحظة قل أن تتكرر في تأريخ الشعوب. فباستثناء القلة العميلة المتماهية مع العدوان والكارهة للجيش والشعب، والساعية هي الأخرى للسيطرة على مقدرات البلاد أو على الأقل نيل الفتات من المحتل الجديد إذا نجح في مسعاه، باستثناء أولئك، فإن الشعب الآن مجمعٌ بكل أحزابه وقبائله وجهاته وفئاته وأطيافه ومذاهبه وطرقه، على الجيش، في لحظة من الرضا والثقة والاطمئنان، إن الجيش هو الذي يرتضيه الجميع حكماً وحاكما، وحافظا لحوزة الأرض ومقدرات البلاد، إلى حين الاستقرار الذي يسمح بانتخاب الحكومات ومستويات السلطة المختلفة.
هذه لحظات ينبغي استثمارها. فقد أرهقت البلاد الصراعات. السياسية والجهوية والعرقية، وآن للناس وقد توحدوا ضد العدو وهزموه بإذن الله، أن يتوحدوا أيضا حول أجندة المستقبل. وأن يدخلوا في حوار مع بعضهم، يُفضي الى خارطة المستقبل، من حيث هياكل الدولة ونظام الحكم وحقوق وواجبات المواطنة، والترتيبات الادارية والنظم الحاكمة وقواعد ممارسة العمل العام، والقواعد الدستورية العليا، ومبادئ إدارة التنوع وإدارة هذه البلاد الكبيرة والبالغة الثراء.
فليتفق الجميع، ونحن في هذه اللحظة الوجدانية النقية، التي ينيرها الحب والتفاؤل والتراضي، والثقة المتبادلة في بعضنا وفي مستقبلنا، والنية الطيبة وحسن الظن، لنتفق على نبذ العنف والصراع، وخاصة حمل السلاح ضد بعضنا وضد الدولة. ولنتفق على آليات حل الخلافات، وآليات نيل الحقوق، وآليات إقامة العدالة بيننا. ولنتفق على سلطات اجهزة الدولة والحكومات، وعلى كيفية اختيار كل مستوى منها، ومشاركة الجميع على قدم المساواة، وعلى خطة استراتيجية للنهضة بالبلاد وتعميرها، وضمان أن ينال كل مواطن فيها حقه ونصيبه.
على قيادة الدولة والجيش تكوين مجالس ولجان، للتدارس والتفاكر والحوار والتوافق حول المستقبل، بهدوء وروية، وحول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والثقافية وقضايا الإعمار والتنمية والعلاقات الخارجية وغيرها، على أن تشمل هذه المجالس واللجان أطيافاً واسعة من الخبراء والعلماء، ومن الإداريين، والسياسيين، والتكنوقراط، والأهم: من الأطياف الأهلية المختلفة من كل الولايات والقبائل وكل الجماعات الدينية والطرق والطوائف، ومن كل المهن والصنائع، ومن كل الأعمار، من الجنسين، ومن كل فئات وأقسام المجتمع السوداني العريض. وبذا نحقق إجماعاً حول القضايا الكلية والرئيسية، وبعدها تتفرغ أجهزة الدولة للتنفيذ والتطبيق، بدلا من الجدال والخلاف والصراع، الذي يؤدي للتعطيل ثم التخريب وربما الصراع العنفي والمسلح!
هذه لحظة إجماع نادرة، يجب استثمارها فورا، والضرب على حديد الاتفاق والتراضي وهو ساخن، لصناعة موقف وطني صلب وثابت ومستدام، لا يشذ عنه إلا من أبى. وسيكون هذا الإجماع قاعدة للبناء عليها عند قيام ما يطالب به البعض من حوار، يسميه البعض المؤتمر الدستوري، أو مؤتمر الحوار القومي الشامل أو المؤتمر التأسيسي وغير ذلك من أسماء مختلفة ومعنى واحد: هو جلوس كل أهل السودان، بلا استثناء ولا تفضيل، للتوافق على محددات مستقبل بلادهم المستدام.