إلا “العمالة” أعيت مَن يداويها
العبيد أحمد مروح
الحرب التي اندلعت في السودان في منتصف أبريل من العام الماضي، دخلت الآن طورها الثالث، وتتجه نحو نهايتها، ونهايتُها عند أغلب المحللين ليست بعيدة.. لا نتحدث عن أيام ولا أسابيع ولكن عن أشهر معدودة.
وكيفما كانت النتيجة على أرض الميدان فإن المشهد الختامي سيكون على طاولة توقيع حولها شهود، بغض النظر عن السيناريو الذي سيقود إلى ذلك.
وإذا كان هذا هو السيناريو الأرجح الذي ستنتهي إليه الحرب عسكرياً، فإن نهايتها سياسياً ستكون بشكل قريب من ذلك، إذ لا خيار أمام مختلف القوى السياسية السودانية، إن أرادت أن تتجنب أخطاءها التاريخية وأن تؤسس لمرحلة جديدة ومختلفة يتشكل وفقها مستقبل السودان، سوى أن تقبل بالجلوس على مائدة حوار شامل، لا يستثني أحداً، ليجيبوا على السؤال الأساسي: كيف يُحكم السودان، ثم يعيدوا بناء المجتمع المدني و أحزابهم السياسية وتأهيلها لخوض منافسة التفويض على نيل ثقة الناخبين السودانيين، من بعد انتهاء فترة الانتقال وإعادة الإعمار.
تحتاج أحزابنا إلى غربلة صفوفها، وإعادة بناء هياكلها، وتسليم راية القيادة فيها إلى جيل جديد من القيادات الشابة لا يحمل من أوزار الماضي إلا عبرة المسير إلى المستقبل. فقد ارتكب الجميع أخطاء في حق أنفسهم وحق بلدهم من حيث أراد بعضهم أن يُحسنوا، وينبغي أن تتطبع الحياة العامة بعد أن تقف الحرب حتى تُتاح فرص للمراجعات الجهورة والاعتراف بتلك الأخطاء واعتزال العمل السياسي لكل قادة المراحل السابقة من تاريخ السودان، وهذا حديث يطول قد نأتي إليه في مقال متفصل.
إحدى الإفرازات التي ستنتج عن هذه الحرب، وقد تكون نتائجها صادمة هي مشكلة “العملاء”، فقد ثبت من وقائع الحرب الحالية أن قوىً سياسية بكامل صفها القيادي قد انخرطت في خدمة الأطراف الخارجية التي كانت سبباً في إشعال الحرب وفي استمرارها، وأنها – هذه القوى السياسية – أصرت على موقفها هذا برغم الفظائع والجرائم والانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع، والحال كذلك، فإن إحدى أبرز العقبات التي ستواجه التحول السياسي في فترة ما بعد الحرب هي كيفية التعامل مع طابور العملاء الطويل!!
في حالة هزيمة إسرائيل في 2006 وخروجها من جنوب لبنان، بعد احتلال دام لما يقارب ربع القرن، إضطر جيش العملاء بقيادة “أنطوان لحد” إلى اللحاق بمُخدميه، فحاز بعضهم الجنسية الاسرائيلية وهاجر بعضهم إلى بلاد شتى، وبعد سنوات من ذلك تمت معالجة أوضاع مَن بقوا على أرض لبنان على نحو يكفل لهم حق المواطنة.
وفي حالة هزيمة أمريكا في أفغانستان، بعد عشرين عاماً من الاحتلال، إضطرت الولايات المتحدة إلى إجلاء عملائها – مؤقتاً – إلى دول في الشرق الأوسط وفي أوروبا ريثما تنظر في ترتيب برنامج الهجرة والإدماج الخاص بهم، كما شاهد العالم عبر الفضائيات كيف أن “العملاء” احتشدوا في مطار كابول وتعلقوا بأجنحة وإطارات طائرات الشحن الأمريكية من طراز (سي 130)، ولا يعرف أحد حتى الآن طبيعة المصير الذي انتهى إليه أمر أولئك العملاء.
أمامنا في السودان فرصة لتقديم نموذج مختلف عن النموذجين اللبناني والأفغاني في كيفية التعامل مع العملاء والطابور الخامس، فعلى الرغم من بشاعة الجُرم الذي اقترفه أولئك الذين باعوا ضمائرهم للأجنبي، وخانوا وطنهم وجيشهم، وجندوا خبراتهم ومعارفهم للإضرار بالبلاد والعباد، إلاّ أن أبرز ما ميّز “الحالة السودانية” هو أن الأمر بقي محصوراً في نخبة سياسية وناشطين وإعلاميين محدودي العدد، ربما لا يتجاوزون بضع مئات، وقد ثبت من خلال متابعة الوقائع اليومية للحرب أن التيار الشعبي العام لفظهم بعد افتضاح أمرهم.
لقد سبق أن شهدت بلادنا حروباً أهلية ومحاولات إنقلابية وغزوات من الخارج قام بها سودانيون تلقى بعضهم تدريباً وعوناً من دول أجنبية، وخلال أكثر من ستين عاماً من عمر الحكم الوطني عاش معارضون سودانيون في الخارج وتعاملوا مع أنظمة ودول شتى بغية مساعدتهم في إسقاط الأنظمة التي كانت تحكم، لكن الثابت أنه على امتداد هذا التاريخ وتعدد التجارب، لم ترهن معارضة سياسية سودانية أو حركة تحمل السلاح، قرارها لداعميها وتتحول إلى مخلب ينهش في خاصرة الوطن خدمة للأجندة الخارجية، إلاّ في الحالة التي عشناها من بعد التغيير الذي حدث في أبريل 2019 والتي انتهت إلى صيغة الإتفاق الإطاري الذي كان السبب الرئيسي وراء الحرب التي نعيش وقائعها اليوم.
الاختلافات السياسية، مهما بلغت حدتها، وحتى لو دفعت البعض لحمل السلاح في مواجهة السلطة الحاكمة، يمكن أن تنهي بالتفاوض إلى التراضي، ما دامت تحدث تحت سقف الوطن، لكن رهن الإرادة الوطنية للأجنبي والسعي إلى تمكينه من بسط هيمنته على مقدرات الدولة، أمر يصعب التغافل عنه. فالعملاء كالسوس لا دواء له إلاّ بالبتر، والبتر المقصود هنا هو أن يرحلوا خارج الأرض التي لفظتهم.
نقلا عن موقع “المحقق” الإخباري