إشكاليَّة الأولويات عند المدنيين: بين شعارات العلمانيَّة وواقع الحرب

خالد محمد أحمد
تكشف بعض التصريحات الأخيرة لقادة ما يُطْلَق عليه (تحالف تأسيس) عن افتقارٍ واضح لحسِّ استنباط أولويات المرحلة؛ إذْ انصرفت إلى قضايا أيديولوجية وشعاراتٍ بعيدة عن سياق الواقع، في وقتٍ يواجه فيه الشعب أوضاعًا مأساوية تتمثًّل في الجوع، والخوف، والنزوح.
فعلى سبيل المثال، صرَّح الناطق باسم هذا التحالف، د. علاء الدين نقد، مؤخرًا بأن غايتهم هي إنهاء الحرب وبناء دولة سودانية (علمانيَّة) تُحقِّق قيم الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية.
ورغم أن المبدأ في حدِّ ذاته لا غبار عليه، فإن الإشكال يكمُن في أولوية الطرح وتوقيته؛ إذْ يعكس الحديث عن قضايا أيديولوجية في ظلّ هذا الظرف الاستثنائي انفصالاً عن هموم المواطنين؛ فالتحدِّي العاجل يتمثَّل في وقف الحرب، والتوصُّل إلى توافقٍ وطني، يليه انتقالٌ قصير ينتهي بانتخاباتٍ حرَّة تتيح لجميع الأطراف طرح برامجها وأفكارها، سواء كانت علمانيَّةً أو إسلامية.
وحتى إذا افترضنا حُسْن النيَّة، وتعاملنا مع هذه التصريحات على أنها جاءت ضمن رؤيةٍ استشرافية لمرحلة ما بعد الانتقال، فإن أسلوب صياغتها وطريقة عرضها أوحيا بأن وصول هذا التحالف إلى السلطة أمرٌ مفروغٌ منه، وأن تطبيق العلمانيَّة مسألةٌ لا مفرَّ منها؛ وهذا ما جعل هذه التصريحات تبدو أقرب إلى إعلانٍ أيديولوجي بطابعٍ إقصائي، بدلاً من أن تكون طرحًا عمليًا يستمدُّ شرعيته من الإرادة الشعبية عبر صناديق الاقتراع.
لم تكن تصريحات د. نقد معزولة؛ إذْ سرعان ما عزَّزها فارس النور، والي الخرطوم المزعوم، الذي خرج علينا من لندن ليعزف على النغمة ذاتها، مبشِّرًا بالعلمانيَّة كأنَّها رغيف الخبز المفقود، وكأنَّها قضية الساعة، بينما البلاد تنزف دمًا وتئنُّ جوعًا، وهي أحوج ما تكون إلى خطواتٍ عاجلة لوقف نزيفها الإنساني والسياسي، لا إلى ترف الخوض في قضايا فكرية طويلة المدى لا تُشبع جائعًا، ولا تُغني فقيرًا، ولا تُؤمِّن خائفًا.
المفارقة أن النور تحدَّث عن العلمانيَّة والحرية من قلب لندن، وعلى مرمى حجرٍ من أعرق البرلمانات في العالم، حيث لا يزال قانون التسوية البريطاني الصادر عام 1701 يشترط أن يكون الملك أو الملكة بروتستانتيًا. فإذا كانت بريطانيا، ذات الإرث الديمقراطي الراسخ، ما زالت مُتمسِّكة بقيودٍ دينية على أرفع منصبٍ سيادي، فكيف يبيع النور للسودانيين وهمَ العلمانيَّة على أنها العصا السحرية القادرة على حلّ أزمات السودان المعقَّدة؟
الأدهى أن النور سبق أن أعلن أن أول قرارٍ سيتَّخذه بعد تسلُّمه منصب والي الخرطوم سيكون تخصيص قطعة أرضٍ لكنيسة الخمسينية، التي قال إن حملات إزالة السكن العشوائي قد شملتها. ليست الإشكالية في القرار في حدِّ ذاته، بل في توقيته، وفي عقليَّةٍ ترى في دغدغة العواطف الدينية لدى الخارج أولوية، وكأنَّ الخرطوم التي تنزف دمًا وتعيش على أطلال مؤسَّساتها لا تنتظر توافقًا وطنيًا يوقف الحرب، ويعيد النازحين، ويرمِّم النسيج الاجتماعي، ويصلح مرافق الدولة المنهارة.
الخلاصة أن هذا النمط من الخطاب في ذروة مرحلة الصراع يثبت أن المدنيين لم يتعلَّموا شيئًا من إخفاقاتهم السابقة، وعلى رأسها سوء ترتيب الأولويات واختيار التوقيت. أما الخلاصة الثانية، فهي أن الحرية والديمقراطية عند أمثال هؤلاء وغيرهم ليست سوى قشرةٍ ومساحيق تجميلٍ أمام الجماهير، بينما يظلُّ السلوك السياسي في جوهره استبداديًا يعيد إنتاج حلقات الإقصاء، التي ظللنا ندور في فلكها منذ الاستقلال. وكما أشرنا من قبل، فإن غالبية ساستنا دكتاتوريون بما شبُّوا ونشأوا عليه؛ فمنهم من (تَدَكْتَر)، ومنهم من ينتظر.



