إدارة بايدن وحرب السودان.. العربة التي جرّت الأحصنة
الركابي حسن يعقوب
في أواخر يوليو الماضي أبلغ المبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيريلو الحكومة السودانية أنه سيزور السودان في الثامن من شهر أغسطس برفقة مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية السفيرة سامانثا باور وذلك للتباحث حول سبل إنجاح المبادرة الأمريكية الخاصة بإنهاء الحرب في السودان عبر مفاوضات (جنيف) التي كان قد حدد لها يوم الرابع عشر من نفس الشهر..
لكن بيريلو وضع شرطاََ غريباََ وقتها لإتمام زيارته وهو أن تتم المباحثات مع الجانب السوداني في مطار بورتسودان وتحت حراسة مشددة من قبل فريق حراسة أمريكي خاص، مبرراََ ذلك بعدم استتباب الأوضاع الأمنية بالبلاد..
الأمر الذي رفضته الحكومة مما أدى إلى إلغاء الزيارة..
لكن وبعد مرور قرابة الأربعة أشهر على إلغاء تلك الزيارة عاد المبعوث الأمريكي وطلب زيارة السودان ووافقت الحكومة على طلبه الذي لم يشرطه بأي شرط هذه المرة، مما يعتبر إقراراََ ضمنياََ – بمفهوم المخالفة – بشرعية الحكومة وبأن الوضع الأمني مستتب وليس هناك ما يدعو للخوف والقلق.. وتمت الزيارة أمس الأول حيث قابل بيريلو رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان بمكتبه بالعاصمة المؤقتة بورتسودان كما التقى أيضاً نائب رئيس مجلس السيادة الفريق مالك عقار، وأجرى مباحثات مع وزير الخارجية علي يوسف، وقابل السلطان سعد بحر الدين سلطان دار مساليت ، وهي مقابلة لم تتجاوز المواساة وإظهار الأسى والأسف بعد فوات الأوان على عمليات الإبادة الجماعية للمساليت والفظائع التي ارتكبتها في حقهم ميليشيا آل دقلو الإرهابية..
وبحسب السفير محمد عبد الله إدريس سفير السودان لدى واشنطون فإن مباحثات المبعوث الأمريكي للسودان ” تطرقت إلى خارطة طريق لإنهاء الحرب، وكيفية إيصال المساعدات الإنسانية، ورتق النسيج الإجتماعي، فضلاً عن العملية السياسية كمخرج نهائي لما بعد الحرب”.
ويصف الكثير من المراقبين للشأن السوداني زيارة بيريلو الأخيرة هذه بأنها زيارة “علاقات عامة” تأتي في سياق المراجعة الأخيرة للملفات (المركونة) في أضابير مكتب الرئيس بايدن قبل رحيله عن المكتب البيضاوي بلا رجعة، أرادت إدارة بايدن والحزب الديمقراطي أن تترك أثراََ يحسب لها في ملف السودان الذي لم تتعاطى معه بجدية وسايرت فيه قوى إقليمية صغيرة حديثة عهد بالسياسة الدولية على رأسها دويلة الشر الأمارات التي كانت هي السبب في تأجيج الأزمة بالدعم المالي واللوجستي والعسكري والدعائي للميليشيا الإرهابية ولم تتعاطى واشنطون مع الملف بصفتها قوة عظمى ينبغي أن تنظر لساحة السياسة الدولية بمنظار كلي يجعل من حفظ الأمن والسلم الدوليين قيمة عليا وغاية سامية تسعى إلى تحقيقها إنطلاقاََ من كونها تمتلك كل الموارد و الإمكانيات اللازمة والضرورية لتحقيقها..
كان في مقدور إدارة بايدن أن تدير ملف الأزمة في السودان بصورة أكثر نجاعة وأكثر احترافية بما يفضي إلى حل مرضٍ يكون أنموذجاََ يحتذى اقليمياََ على الأقل..
لكنها آثرت أن تحرز هدفاََ في مرماها في اللحظة الأخيرة، من حيث أرادت تشتيت الكرة بعيداََ عنه، فقد صرح بيريلو في لقائه بوزير الخارجية علي يوسف بالقول (لا أرى مستقبلاََ سياسياً أو عسكرياً لقوات الدعم السريع في السودان) .. فهل اكتشفت إدارة بايدن فجأة وهي تلملم أوراقها ومتعلقاتها لمغادرة البيت الأبيض وبعد مرور 19 شهراََ من الحرب في السودان وما صاحبها من فظائع وانتهاكات جسيمة ومجازر مروعة ارتكبتها ميليشيا آل دقلو الإرهابية في حق المدنيين، أن هذه الميليشيا لا تصلح لأي دور سياسي أو عسكري في مستقبل السودان..!
ألم تكن إدارة بايدن بما أوتيت من قوة ومن مؤسسات إستشارية وأدوات استشعار مبكر وما تملكه من وسائل صنع القرار ومستودعات الفكر التي ترفدها بالمعلومات الموثقة أن تصل إلى حقيقة ألاّ مستقبل لهذه الميليشيا في السودان فلا ترمي بثقلها خلف “الإتفاق الإطاري” الذي كان السبب الأساسي في إشعال نار الحرب! ألم تكن إدارة بايدن عشية 15 أبريل 2023 تدرك أن العواقب ستكون وخيمة وهي تبارك خطة الميليشيا وجناحها السياسي (قحت) للاستيلاء على السلطة بالقوة صبيحة اليوم التالي!
هل من أحد يمكن أن يصدق أن الدولة العظمى (الوحيدة) كانت ترى الأمور من نفس الزاوية الضيقة التي كانت تنظر إليها ميليشيا آل دقلو الإرهابية وجناحها السياسي المهيض ، على أن الأمر سيكون مجرد نزهة وأن العملية لن تستغرق سوى ساعة من نهار !
أم أنها كانت تدرك فداحة العواقب وأنها مغامرة غير محسوبة لكنها أرادت ذلك رعاية لمصالح بعض صغار أصدقائها الاقليميين فأعطت الضوء الأخضر لإنفاذها ترضية لها.
لا أحد يستطيع الجزم بحقيقة المرامي والأهداف التي جعلت إدارة بايدن تنساق خلف أحلام وأوهام ميليشيا همجية، وأحلام ناشطين أغرار دخلوا مضمار السياسة بلا دراية ولا خبرة ولا رؤية يظنون أن الديمقراطية يمكن أن تجلب عبر صناديق ذخيرة الميليشيا الإرهابية ، لا عن طريق صناديق الإقتراع، تقف خلفهم قوى الشر التي تعاني متلازمة تضخم الذات ومرض جنون العظمة، وتؤمن بأن المال يمكن أن يحول الأوهام إلى حقيقة وأضغاث الأحلام إلى واقع وأن البندقية هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على المصالح وأن علاقات التعاون وحسن الجوار واحترام سيادة الدول ما هي إلا أساطير الأولين إكتتبتها الأمم المتحدة لا تسمن ولا تغني من جوع..
أضاعت إدارة بايدن فرصة ظلت سانحة ومتاحة لها طيلة أشهر الحرب في السودان أن تقود عربة الأزمة للخروج بها بسلام إلى بر الأمان بلا كلفة كبيرة ومن ثم تكتب في لوحها هذا الإنجاز أنها حقنت الدماء وجنبت السودانيين تلك المجازر المروعة والتشريد والتهجير والنزوح واللجوء وفوق ذلك السخط عليها وتحميلها جزءاً كبيراً من المسئولية جنباََ إلى جنب مع ميليشيا آل دقلو الإرهابية ..
لكنها اختارت أن تكون (مجرورة) خلف عربة الميليشيا الإرهابية التي يقودها رجل أوتي بسطة في الجهل والحمق مؤتلفاََ مع جناح سياسي يقوده رجل لم يؤتى سعة من الفهم والكرامة فهو كالحمار يحمل أسفارا وغلب جهله علمه .. فكان حصادها هشيماََ ذرته الرياح ..
إنها العربة التي قادت الأحصنة!
ورغم أنه من المبكر الآن تحديد الإتجاه الذي سيسلكه الرئيس المنتخب دونالد ترمب بشأن الملف السوداني بعد تنصيبه رسميا رئيسا للولايات المتحدة في يناير من العام القادم ، إلا أنه يمكن القول إجمالاََ أنه لن يسير على ذات الطريق الخطأ الذي سلكه سلفه، وأفضى به إلى الفشل..
والراجح أن إدارة ترمب القادمة ستسلك طريقاََ آخر أقل كلفة وأقصر مسافة وذلك لعدة أسباب أهمها، أن الجمهوريين عرف عنهم البراغماتية في السياسة الخارجية وليس الآيدولوجية، فالأولى واقعية والثانية قد تلامس الخيال في أحيان كثيرة، كذلك فإن علاقة ترمب بروسيا جيدة، والسودان يحتفظ بعلاقات ممتازة مع روسيا آخر شواهدها كان بالأمس حيث استخدمت روسيا الفيتو بمجلس الأمن الدولي لصالح السودان ضد المشروع البريطاني الذي يدعو إلى “وقف فوري للأعمال العدائية بالسودان وحماية المدنيين” وهو مشروع يرفضه السودان ويرى أنه مفخخ ويفتح الباب لتدخل قوات أممية في السودان مما يعد انتقاصاََ من سيادة الدولة وشرعية الحكومة، وإعادة ميليشيا آل دقلو الإرهابية وجناحها السياسي المهيض إلى المشهد مرة أخرى، وقد وجد الفيتو الروسي ترحيباََ كبيراً من قبل الحكومة وارتياحاََ واسعاََ من الشعب السوداني ، ولهذا نقول إنه من الراجح أن يتعاطى ترمب مع ملف السودان بتفاهم دقيق ومحسوب مع روسيا كغيره من الملفات التي فيها تقاطعات أمريكية روسية.