أنشودة الجن رؤية مغايرة (1- 2)

د. صديق المجتبى

ما كتبه أستاذنا الدكتور عبد اللطيف سعيد عن رؤيته لأنشودة الجن ليس شرحاً للنص أو نقداً أو تفسيراً لقصيدة الشاعر الكبير التجاني يوسف بشير ولكن ما قام به يقع في باب علم التأويل

HERMENEUTIC

والتأويل دائماً لا يعتمد على ظاهر النص أو بنيته السطحية ولا العميقة  التي يجب أن يصل إليها الناقد بتفكيك النص وإحالته إلى رموز وإشارات ودلالات سياقية يهتدي بها الناقد إلى النفاذ إلى جوهر النص الشعري في معانيه المستلهمة من التراث أو  البيئة الثقافية أو المناخ الذي كتبت فيه القصيدة.

لكل مشهد شعري سياق خاص لا يتجاوز المسرح الذي وضعه فيه الشاعر برمزه ولمحه وصوره الجمالية البديعة التي يحاول من خلالها أن ينقل بها رؤيته الشعرية ويبث رسالته الجمالية وشحنته العاطفية إلى المتلقي، واقتناص المعاني التي تشرد بعيداً عن الحقل الدلالي الذي أنشأه الشاعر ليكون مجالاً تعمل فيه كل الدوال والرموز والإيحاءات والصور التي صنعها الشاعر أو استجلبها من بيئته أو المحيط الذي أوحى إليه القصيدة وقدح في نفسه زناد الكتابة.

إذا تجاوزنا هذه المعطيات وذهبنا بتأويل  النص بعيداً عنها فإن ما يقدمه الناقد يصبح نصاً جديداً مستلهما من معاني باطنية لا علاقة لها بنص الشاعر ونكون بذلك قد حمّلنا النص رسالة مختلفة عن تلك التي أراد الشاعر أن ينقلها إلينا.

خذ مثلاً بعض الإحالات التي افترضها الدكتور عبد اللطيف سعيد ولا تنسجم مع مناخ القصيدة ومنها افتراضه أن التجاني الذي خاطب طرير الشباب الذي خصه بهذه الصفة يرمز إلى نداء سيدنا إبراهيم للحج كما سنرى لاحقاً، وكلمة طرير التي تعني في كل المعاجم الشاب ذو الرواء أو الهيئة الحسنة وفي مرحلة معينة من العمر إذ تعني أيضاً الشاب الذي طَرَّ وطلع شاربه وتطلق أيضاً على الشابة الناعمة الحسنة الهيئة وقد ظهر حسنها وجمالها ورقتها وطرت ألحاظها عشاقها أي كأنها سيوف محددة قاطعة، قال الشاعر بن الساعاتي أحد شعراء العصر الأيوبي:-

كَلَفي بمخطفة القوامِ طريرةِ الألحاظ هيفاءِ المعاطفِ رودها

خوطيّة الحركات جاذبها الصِّبا

جَذبَ الصَّبَا ما لان من أملودها

أي شبه ألحاظها بالسيوف القاطعة المحددة الشفرات

أما طرير الشباب هو الشاب أو الشابة حسن/ة الهيئة.

وهذا هو المعنى الذي قصده التجاني في وصف المغني في ذلك الحفل  البهيج الذي حضره التجاني برفقة بعض أقرانه كما ذكر لي ذات مرة الأستاذ خالد أبو الروس صديق التجاني وزميله في الخلوة والمعهد العلمي ورفيقه في الصبا، وكذلك حكى الشاعر جوزيف لطيف صبَّاغ عن حضور التجاني لذلك الحفل وهو بعدُ شابٌ يافع في بواكير الصبا وربما يكون هو الذي دعاهم إلى حضور ذلك الحفل ربما كتبت هذه القصيدة في نهاية العقد الثاني من عمر الشاعر أو قبل ذلك لأنه أثبتها ضمن قصائد ديوانه الجزء الأول إشراقة الذي قدمه للموافقة على نشره في يوم ١٥/ديسمبر/ ١٩٣٤ حسب توقيع قلم المخابرات البريطانية إدوارد عطية على الصفحة الأخيرة من المخطوطة الأصلية لديوان التجاني بخط يده، إشراقة الجزء الأول أي أن عمر التجاني كان وقتها أثنين وعشرين عاماً وربما كتبها قبل ذلك التاريخ بعامين أو ثلاث ولم يتجاوز عمره الثامنة عشر أو العشرين عاماً.

هذا “الطرير” بكل الصفات التي أوردها التجاني في أنشودة الجن يستحيل تشبيه صيحته في الربى والوهاد بنداء إبراهيم للحج لعدم وجود القرينة أو الدلالة التي تشير إلى ذلك. ربما قصد الشاعر من قوله:

صح في الربا والوهاد

واسترقص البيدا

تعظيم المساحة التي تمدد فيها اللحن في مشاعره وأندياحه ليعم الربى الوهاد بقدرته أن يتجاوز الجبال الشم والوهاد ليصل إلى كل كائن في الأرض لما له خواص متافيزيقية رمز لها الشاعر بعنوان القصيدة “أنشودة الجن”. أو ربما يمكن القول إن التجاني تأثر بالقرآن في تشبيه صوت المغني  بمزامير داؤود الذي تتجاوب معه الجبال والطيور وذلك في قوله تعالى  (ولقد آتينا داؤود منا فضلاً ياجبال أوبي معه والطيرَ وألنا له الحديد) هذا مقبول لوجود القرينة بين صوت المغني الجميل ومزمار داؤود وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صوت أبي موسى الأشعري وهو يرتل القرآن (لقد أوتي مزماراً من مزامير داؤود) ومما يعزز هذا التفسير وجود  الكثير من الظلال القرآنية في شعر التجاني كونه حافظاً لكتاب الله الذي يمثل مصدرا مهماً للغته وتصويره الفني.

أما قوله يا حلو يا مستطاب

أنشودة الجن

فيه استملاح للمغني وجماله أما المقصود بـ”أنشودة الجن” أن هذه الأنشودة تنتمي لعالم لا يستطيع بشر أن يأتي بمثلها، وهذا تعبير سوداني بحت كقولهم “اشتغلنا شغل الجن” أي أنهم عملوا فوق وسع البشر. وكانت العرب تنسب الشعر إلى وادي عبقر وهو وادي الجن في بلاد اليمن وكان لكل شاعر شيطانه. قال شيخ الشعراء عبد الله الشيخ البشير في قصيدته “البحث عن بيت شعر” إن جواده الذي امتطى صهوته في تلك الرحلة الأسطورية مرّ بعبقر ليلاً علّه يجد عندهم بيت الشعر المفقود لكن كلابهم هرّت فيهم ومنعتهم من الدخول فقال:-

ومرَّ بعبقر ليلاً فهرًت

كلاب الجن عرفيت وشيت

فأنشودة الجن تنتمي إلى ذلك الوادي الذي تسكنه الجن. هذا المعنى مقبول وراسخ في تراثنا وثقافتنا

أما قوله:-

واقطف لي الأعراب واملأ بها دني

من عبقريِّ الرباب

أو حرمَ الفن

في هذين البيتين استخدم الشاعر الاستعارة المكنية بحذف المشبه به وترك لوازمه الدالة على ذاته

فشبه الرباب تكنيةً ببستان العنب لوجود فعل الأمر “أقطف”. وجعل الفن شيئاً مقدساً مصوناً ورمز إلى ذلك بقوله “من حرم الفن” كناية عن السمو والرفعة وشبه اللحن بالخمر وكنى لهذه الصفة بالعصر، وعن السُّكر بإثبات كلمة “دنِّي”، وكل ذلك يشير إلى حالة النشوة العظيمة  التي أصابت الشاعر من هذه الأنشودة الأسطورية الخارقة التي أصابته بحالة من السكر والنشوة والجنون.

أما كلمة “عبقري” فقرآنية المصدر في وصف تمام حسن الشئ وفرادته وكماله قال تعالى في سورة الرحمن يصف مخادع أهل الجنة  والحور العين: (متكئين على رفرف خضر وعبقريٍّ حسان) صدق الله العظيم

قال ابن الأنباري: إن الأصل فيه أن عبقر قرية يسكنها الجن ينسب إليها كلُّ فائقٍ جليل.

وقال الخليل: كل جليل نافس “أي نفيس” فاضل وفاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.

وكل إنسان جليل في قومه يوصف بأنه عبقري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: (فلم أر عبقرياً من الناس يفري فِرْيهً) وقد سئل أبو عمر بن العلاء عن قوله صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه فقال: يقصد رئيس القوم وجليلهم.

أنظر الجامع لأحلام القرآن للقرطبي تفسير سورة الرحمن.

إذاً عبقري تعني النفيس الجليل الحسن ولو كان لها علاقة بالجن لما وصف بها الله متكأ أهل الجنة لأن كل ما في الجنة من صنع الله وإبداعه، والرفرف هو الوسادة أو الطنافس النفيسة الفائقة الجمال.

اختيار كلمة عبقري القرآنية في وصف الرباب بالعبقري يدل على فصاحته وتعمقه في فهم معاني القرآن الكريم وتفسيره. فالرباب العبقري هو النفيس الذي تصدر منه هذه الموسيقا الساحرة واللحون الآسرة كأنه يشير إلى أن كلَُ شيء في ذلك المشهد فريد ونفيس وجميل وجليل، فيا لروعة المشهد ويا لجمال الوصف. ولذلك طلب الشاعر من الكنار أن ينقل روعة ذلك المشهد إلى الأعراب، وهنا تقفز من ثنايا هذا النص قصة الهدهد الذي حمل رسالة سيدنا سليمان للملكة بلقيس. والكنار طائر مناسب لنقل اللحون لأنه موسيقار والموسيقى الساحرة التي انتشى بها الشاعر حدَ السُكر. لا يمكن أن ينقلها إلا الكنار لأنه موسيقار، أما الهدهد فمناسب لحمل رسالة سيدنا سليمان إلى بلقيس لأنه هو الذي شهد على كفرهم وسجودهم للشمس وجمال عرش ملكتهم بلقيس. بلغ سيدنا سليمان بذلك فهو ضابط مخابرات في جيش سيدنا سليمان.

ففي هذا السياق لا علاقة للكنار بطيور الجنة الخضر ذوات الحواصل التي تحمل أرواح الشهداء والصالحين لانعدام القرينة فهو مختص بالغناء والموسيقى حسب السياق الدلالي فهو خير رسول لتبليغ تلك الرسالة إلى الأعراب في تلك القرون السحيقة.

أما قوله :-

صحْ في الربا والوهاد*

واسترقص البيدا*

واسكب على كل ناد*

ما يسحرُ الغيدا*

لا تزال ذاكرة النص الشعري تحتفظ بوصف اللحن بالخمر المسكوب في دن الشاعر ويقصد نفسه الظمآى إليه وكنى عن ذلك بفعل الأمر (واسكب) ولا زالت صفة السحر تلتزم ذلك اللحن لقوله ما “يسحر الغيدا” وهنا حدد الشاعر بوضوح شديدٍ الجهة المقصودة بهذه الرسالة وهم الغيد الحسان وليس من  ناداهم سيدنا إبراهيم مؤذناً فيهم بالحج فتأويل المعنى هنا لا علاقة له بالنص ولا توجد رموز أو دوال تقربنا إلى ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور  في تأويله أو تفسيره الباطني للنص.

أما قوله في تأويل قول الشاعر:-

وامسح على ذرياب*

واطمس على معبد*

لا توجد قرينة دالة على أن ذرياب ومعبد يرمزون إلى الرسالات السابقة أو الأنبياء الذين نسخ رسالاتهم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذا يعني أن دين الإسلام نسخ كل الرسالات والكتب السماوية السابقة التي كانت شرعة ومنهاجاً لكلّ أمة، وأبقى على أصل الدين وهو الإسلام .لأن “الدين عند الله الإسلام قال تعالى :

﴿وَمَن یَبۡتَغِ غَیۡرَ ٱلۡإِسۡلَـٰمِ دِینࣰا فَلَن یُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ [آل عمران ٨٥] صدق الله العظيم

ولا يوجد دين غيره من لدن سيدنا آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى:

﴿قُولُوۤا۟ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِیلَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ وَٱلۡأَسۡبَاطِ وَمَاۤ أُوتِیَ مُوسَىٰ وَعِیسَىٰ وَمَاۤ أُوتِیَ ٱلنَّبِیُّونَ مِن رَّبِّهِمۡ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ﴾* [البقرة ١٣٦]

وجاء في آخر سورة البقرة

﴿ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ غُفۡرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَیۡكَ ٱلۡمَصِیرُ﴾ [البقرة ٢٨٥].

نواصل…

Exit mobile version