أميركا والدعم السريع: إرهابٌ موثّق… وتصنيفٌ ينتظر الإذن

مهند عوض محمود
أعاد تصريح وزير الخارجية الأميركي بعد اجتماع وزراء خارجية السبع في كندا إحياء السؤال القديم حول معيار واشنطن في تصنيف الجماعات الإرهابية: هل تستند الولايات المتحدة إلى القانون الدولي، أم إلى حسابات المصلحة؟ الوزير قال إن بلاده قد تُقدِم على تصنيف قوات الدعم السريع «إذا كان ذلك يساعد على إنهاء الحرب». جملة قصيرة في ظاهرها، لكنها تُعرّي جوهر السياسة الأميركية: التصنيف ليس حكماً قانونياً، بل أداة ضغط تُستخدم حين تريد واشنطن، وتُجمَّد حين لا تريد.
والمفارقة أن الحالة السودانية لا تحتاج إلى «دراسة جدوى»، فجرائم الدعم السريع موثقة بما يكفي لتجريم جيوش نظامية، لا مجرد ميليشيا متمرّدة. هذه الجماعة خرقت الدستور السوداني وتمردت على الدولة؛ انتهكت قواعد الاشتباك؛ قتلت الأسرى بدم بارد؛ مارست التعذيب والتجويع؛ ارتكبت مذابح عرقية في دارفور والخرطوم والجزيرة وكردفان؛ حاصرت المدن واتبعت سياسة التجويع المتعمد؛ نهبت الممتلكات؛ جنّدت الأطفال؛ استخدمت الاغتصاب كسلاح؛ وشرّدت مئات الآلاف.
وليس هذا سرداً سياسياً، بل حصيلة تقارير رسمية لكل من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ لجنة خبراء الأمم المتحدة؛ بعثة اليونيتامس؛ منظمة العفو الدولية؛ هيومن رايتس ووتش؛ تقارير الأمم المتحدة بشأن العنف الجنسي؛ والمنظمات الإنسانية العاملة في الميدان. ورغم هذا الكم من الأدلة، يربط الوزير الأميركي التصنيف بـ«هل يساعد ذلك في إنهاء الحرب»، لا بـ«هل ارتكبت الميليشيا جرائم إرهابية». وهذا يكشف جوهر المشكلة: واشنطن لا تصنّف وفق الوقائع، بل وفق ما تمليه المصلحة السياسية.
وهذه ليست سابقة ؛ فالولايات المتحدة استخدمت التصنيف سابقاً في مواجهة السودان نفسه، حين وضعته عام 1993 على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»؛ ثم أبقته على القائمة ما يقرب من سبعة وعشرين عاماً رغم تعاون أمني واسع وتبادل للمعلومات وتحقيق معظم الشروط الفنية المطلوبة. ومع ذلك لم تُرفع العقوبات، ولم يُرفع الاسم، إلا في عام 2020 — لا استناداً لملف الإرهاب — بل ضمن صفقة سياسية واقتصادية مكتملة الأركان. فقد دفع السودان 335 مليون دولار كتعويضات لأسر تفجيرات المدمرة كول، التي لم يكن مسؤولاً عنها؛ انهكت الاقتصاد السوداني آنذاك ؛ كما قَبِل تطبيع العلاقات مع إسرائيل؛ وقدم التزامات سياسية تتعلق بالمرحلة الانتقالية وتوجّهات سياسته الخارجية؛ وجرت كل تلك الترتيبات في إطار تفاهمات واسعة تضمن لواشنطن نفوذاً أكبر في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. أي أن رفع اسم السودان من القائمة لم يكن «تقييماً لمخاطر الإرهاب»، بل استثماراً في صفقة استراتيجية، تؤكد أن تصنيفات الولايات المتحدة تُستخدم حين تريد، وتُرفع حين ترغب، وتتبدل بتبدل المصلحة.
من هنا، لا يجوز المرور على تصريح الوزير الأميركي بوصفه خطوة إيجابية فحسب، بل يجب قراءته كنافذة ضغط يمكن للخرطوم استثمارها. وقد رحّب وزير الخارجية السوداني — وهو دبلوماسي رصين يتميز بالحكمة والانضباط — بالتصريح في إطار المجاملة الدبلوماسية المتوقعة ؛ لكن هذا الترحيب لا يعني قبولاً بمنطق واشنطن الذي يربط القانون الدولي برغبتها لا بمبادئه.
والمطلوب الآن أن تتحرك الحكومة السودانية بصلابة؛ لتجعل من جملة الوزير الأميركي نفسها شرطاً تفاوضياً ؛ فإذا كانت واشنطن تعترف ضمناً بأن ملف التصنيف بيدها، وأنها ستستخدمه إذا «شاءت»، فعلى الخرطوم أن تجعل تصنيف الدعم السريع مطلباً سيادياً لا تتقدم عنده أي خطوة في التعاون الثنائي. فليس من المقبول أن تتعاون الخرطوم مع دولة تقرّ بالجرائم، وترى الأدلة، وتقرأ تقارير الأمم المتحدة، ثم تُرجئ التصنيف إلى حين تتأكد «مصلحتها» في ذلك.
وبذلك، يغدو التمسّك بهذه النقطة أكثر من مجرد تحفظ لغوي؛ إنه أداة تفاوضية تعزّز موقف الخرطوم وتوسّع هامشها السياسي في أي حوار مقبل مع الولايات المتحدة أو مع الأطراف الدولية. فالمطالبة بتصنيف الدعم السريع ليست مطلباً حكومياً فحسب، بل مطلباً شعبياً يعكس وجدان السودانيين بعد ما شهدوه من جرائم ماثلة وموثقة.
واعتبار هذه الجملة محوراً للتفاوض سيُحوّلها إلى ورقة مؤثرة داخل دوائر صناعة القرار الأميركي، حيث تلعب مراكز الدراسات، والمعاهد البحثية، والمنظمات الحقوقية، ومجموعات الضغط دوراً أساسياً في صياغة التوجهات والمواقف. وكلما ارتفع صوت الخرطوم — شعباً وحكومة — بشأن ضرورة هذا التصنيف، كلما زادت حساسية الملف داخل تلك الدوائر، واتسع نطاق النقاش حوله، وتحوّل إلى عنصر محفّز يدفع صناع القرار في واشنطن لإعادة تقييم الطريقة التي يتعاملون بها مع الحرب في السودان.
وهكذا تصبح هذه الجملة، في سياقها الصحيح، ورقة ضغط مجدية، لا يجوز التفريط بها، لأنها تُقوّي الموقف التفاوضي للسودان وتمنحه مساحة أوسع لانتزاع اعتراف دولي بحقيقة ما ارتكبته الميليشيا من جرائم لا يمكن تجاهلها.



