عادل الباز
1
استوقفني فيديو تم تداوله بكثافة خلال الأيام الماضية، يظهر فيه طالب في قاعة الامتحانات وهو بكامل لباسه العسكري يهتف: “أمن يا جن”. أثار ذلك في ذهني سؤالًا: هل غيرت الحرب، ضمن ما غيرت، نظرة هذا الجيل الجديد إلى الأمن؟
كان جهاز الأمن في أيامنا (يا حليل أيامنا) سواء في الجامعة أو بعدها، وإلى عهد قريب، يُعد بعبعًا سيئ السمعة. كانت النظرة إلى المنتمين إليه مليئة بالريبة والشكوك. ساهمت في تكريس هذه الصورة قوى اليسار واليمين التي سعت لرسم صورة مشوهة لدور جهاز الأمن في حفظ أمن البلاد، وحصرته في أدوار القمع والسجون والإرهاب وبيوت الأشباح.
كانت أغلب الهتافات السياسية في المظاهرات توجه ضد الجهاز، ولا أذكر مظاهرة في الجامعة لم يُردد فيها شعار “جهاز الأمن جهاز فاشستي”، حتى قبل أن نفهم معنى “فاشستي”. لم نكن نعرف عن الجهاز سوى أنه يتربص بمعارضي النظام، يسجنهم، يقمعهم، ويعذبهم.
2
عبر تاريخ جهاز الأمن، ظلت هذه صورته في المخيلة العامة منذ تأسيسه كجهاز أمني تابع لوحدة المخابرات البريطانية (MI6). وقد تحدث عنه “إدوارد عطية” في كتابه “An Arab Tells His Story”، حيث عمل ضابطًا في جهاز المخابرات البريطاني. أشار عطية إلى أن مهمة الجهاز الأساسية كانت جمع المعلومات الاستخباراتية ومتابعة التحركات السياسية والاجتماعية، خاصة في ظل تصاعد الحركات الوطنية التي طالبت بإنهاء الحكم الاستعماري في السودان.
تأسس أول جهاز أمن وطني عام 1957 بعد الاستقلال مباشرة تحت مسمى “جهاز الأمن الوطني”، وذلك خلال فترة الحكم الديمقراطي الأولى. أما جهاز الأمن القومي فقد نشأ أواخر عام 1969 في عهد مايو تحت إشراف عضو مجلس ثورة مايو وضابط المخابرات العسكرية الرائد مأمون عوض أبو زيد، وكان يُعرف بمسميين: “الأمن القومي” و”الأمن العام”، قبل دمجهما عام 1978 تحت مسمى “جهاز أمن الدولة”.
بعد سقوط نظام نميري عام 1985، أصرت أحزاب اليسار التي صعدت إلى السلطة على حل الجهاز فورًا، مما أدى إلى خسائر فادحة في أمن البلاد. وقد وثّق العميد أمن “م” حسن بيومي تفاصيل هذه المأساة في كتابه “جهاز أمن الدولة أمام محكمة التاريخ”.
بدأ نظام الإنقاذ بجهازين للأمن الداخلى وآخر للخارجى قبل دمجمهما تحت مسمى الأمن والمخابرات الوطني في العام 2004 وتأسس هذا الجهاز الجديد على أنقاض جهاز أمن الدولة أو الجهاز المايوي.
حاولت قوى اليسار تكرار المأساة عقب التغيير في 2019 حيث تم تغيير اسمه إلى جهاز المخابرات العامة ومن ثم تعرض إلى أكبر مذبحة في تاريخه بتسريح أكثر من 18 ألف جندي من هيئة العمليات وهى القوة الضاربة التي كان من شأنها حفظ الموازنات العسكرية. ومرة أخرى كادت الكارثة أن تقع حين تم الاتفاق على وضع الجهاز تحت إدارة الحكومة المدنية وتحويله إلى مركز دراسات يقتصر دوره على جمع المعلومات وتسليمها للشرطة. بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، استعاد الجيش كامل سلطات الجهاز، وتم تغيير اسمه إلى “المخابرات العامة”.
ظل الجهاز عبر هذه الحقب معزولًا عن شعبه، ولم تُقدر الأدوار التي يقوم بها. كانت المعارضة تنتظر دائمًا فرصة للنيل منه، رغم محاولات عديدة في عهد الإنقاذ لتحسين صورته عبر الانفتاح على المجتمع الأهلي، والمشاركة في أنشطة الرياضة والفنون. لكن الصورة السلبية بقيت في أذهان المعارضين والعامة.
3
الآن، بعد الحرب، بدا واضحًا أن صورة الجهاز تغيرت كليًا. برزت أدوار جديدة للمخابرات العامة، حيث رأى الشعب أن الجهاز لا يقتصر على أدواره التقليدية في جمع المعلومات، مكافحة التجسس، ورقابة التخريب الاقتصادي. بل أصبح أفراده يحملون السلاح ويدافعون عن بلادهم في “معركة الكرامة”. وكانت أبرز أدواره هو الاختراقات التي اضطلع الجهاز بدور رئيسي فيها.
اليوم، لا أحد يشكو من قمع الجهاز، ولا يوجد معتقل واحد من المعارضين، حتى من يدعمون الجنجويد سياسيًا. بل أصبح أفراد الجهاز أبطالًا يُستقبلون بالزغاريد والأحضان. وعندما يصلون إلى منطقة حرروها، يرتفع الهتاف: “أمن يا جن”.
هذا الحب الذي يلقاه الجهاز الآن من الشعب لم يحدث في تاريخه الطويل منذ ما قبل الاستقلال. جيل جديد أدرك الآن معنى أن يكون الوطن آمنًا، ترعاه مؤسسات قادرة ماديًا ومعنويًا وتحافظ على مقدراته ووجوده.
صمتت أبواق المعارضة الآن، ولم تعد هناك هتافات ضد الجهاز، ولا حتى نقد داخلي أو خارجي.
المحافظة على هذه الصورة المشرقة للجهاز، التي تحققت بعد معركة الكرامة، ضرورة قصوى. يجب أن تظل صورة الجهاز ومهامه الجسيمة واضحة أمام الشعب، حتى لا تتشوه بالأكاذيب والاتهامات كما حدث في السابق. صورة الجهاز كمقاتل من أجل الوطن، وحافظ لأمن الشعب وفق القانون، وحامٍ ضد اختراقات الأعداء، يجب أن تظل حاضرة لترسخ أفعاله في وجدان الشعب.
وقبل الختام لابد من ازجاء تحايا خاصة لشهداء الجهاز وعضويته التي لا تزال تمسك بالزناد في المتحركات المتعددة والتحية لقيادة الجهاز لما قامت به من عمل داخلي وخارجي مشهود، والى قيادة الدولة التي حمت الجهاز من تغول المتربصين به، وأعادت له دوره الطبيعي والطليعي في صيانة أمن الوطن ولابد أنها الآن سعيدة بالهتاف “أمن ياجن”.