إبراهيم احمد الحسن
(1)
زوابع رعود وعواصف وأمطار سارية الليل وشعفوفة تصحبها رياح تعصف بحبات المطر ذات اليمين وذات اليسار ثم تجعلها تدور حول نفسها وتهبط بها نحو الأرضين في تتابع عنيف واندفاع ، يعكس عين الخريف كلها في يوم واحد بين العصا الرويانة، الضُراع ، النترة والطرفة البكاية.
(2)
عمنا عبدالحميد كان يردد بصوت خاشع وسط دوي الرعود والأعاصير والزوابع : اللهم أجعلها أمطار خير وبركة ولم يلبث أن يصيح بصوت يعلو فوق صوت الرعد ( أروي !!أروي) ، كانت المطرة تروي الأرض وتروي سقف الدكان المصنوع من شقائق سيقان أشجار الدليب و وجذع ضخم من شجر السنط يسمى ( المرق )، يسند شقائق أعواد الدليب التي تمتد من الحائط إلي الحائط بطول الدكان وينشر عليه بساط منسوج من أعواد صغيرة من حشائش النال والبوص والعدار ويسمى هذا المنسوج (بالشرقانية) يوضع عليها كميات من الطين المخفوق يسمى بالنعال ثم يبلط بخليط من الطين وروث البهائم الجاف ويسوى في إنحدار وميلان بحيث تسهل عملية إنسياب مياه الأمطار إلي مصارفها علي الارض عبر ما يعرف بالسبلوقة، حبات المطر التي تسقط بتتابع وبدون فواصل زمنية بين سقوط حبة واخرى تجعل الطين المبلط والطين النعال يرتوي بالماء ثم يصل مرحلة التشبع ويتضخم وزنه ضعفين ويزيد الطين بلة ، يثقل السقف بوزن الماء والطين فيه علي الشرقانية التي يصعب حملها علي أعواد اشجار الدليب وينو بحمله الثقيل (المرق) قبل أن ينكسر ويتشتت الرصاص ليسقط السقف وينهار علي عمنا عبدالحميد الذي لم يزل يردد ( أروي !! أروي) وينقطع صوت عبدالحميد عليه رحمة من الله مغفرة وبركات . ويفقد تواصله مع العالم الخارجي حيث هزيم الرعد وزخات المطر .
(3)
هرع الجميع لإنقاذ عبدالحميد ومعه ما يمكن انقاذه ، وكان أول من وصل مكان الدكان المنهار عمنا هِرّْيبِي عليه الرحمةوالمغفرة ، هِرّْيبِي اشتهر بروح الدعابة والمرح والفكاهة ووسمت شخصيته الكريمة سخرية محببة كانت جواز مروره الي قلوب كل من عرفه وزادت خصاله الخيرة خصلة كانت لاتفارقه ، وبمجرد ان بدأت فرقة الإنقاذ المكونة من الجيران وبعض المارة في الحفر وازالة الأنقاض حتى بدأ عمنا هِرّْيبِي يردد (يا جماعة اعملوا حساب المرحوم .. يا جماعة اوع المرحوم ..) وكان المنقذون يعملون بجد واجتهاد ولم يدخر عمنا هِرّْيبِي دخراً في ترديد تحذيره خوفاً ان تمس جثة المرحوم بأذي فوق الموت الذي هو المصيبة الأكبر .. المرحوم يا جماعة اعملوا حسابكم المرحوم .
(4)
الجارة الحزينة لعمنا عبدالحميد في الدكان كانت تبكي وتنتحب بشدة وهي تعدد صفات الراحل المقيم جارها عبدالحميد من كرم وجود واخلاق رفيعة وكيف انه كان يتواصل مع كل الجيران في السراء والضراء والمناسبات كافة وعمنا هِرّْيبِي لا ينفك يردد ( المرحوم اعملوا حساب المرحوم !! )
(5)
عمنا الحاج محمد صالح جاء الي موقع الدكان علي عجل وبصوت وقور كان يقول ل عمنا هِرّْيبِي أوقف هذا النداء الآلي يا رجل ولا تفسد علي المرحوم الموت في هدؤ والنطق بالشهادتين فهو احق بتذكيره بذلك ان كان فيه رمق من روح ، هِرّْيبِي الذي بدأ وكأنه لم يسمع نصيحة الحاج محمد صالح رفع صوته حتى يصل الرحيمة الذي كان يعمل بجد واخلاص واندفاع في ازالة الركام والانقاض .. ( المرحوم يا جماعة اعملوا حساب المرحوم !! )
(6)
وما ان اقترب المنقذون من ازالة الطبقة الاخيرة من الركام حتى بدأ صوت من انين مكتوم يصل لمسامع فريق الإنقاذ ، ومع ان الأنين كان واضح إلا ان عمنا هِرّْيبِي لم يكف عن ترديد تحذيره ( المرحوم يا جماعة أوع المرحوم ) اعملوا حسابكم ،المرحوم ..المرحوم ..المرح) من تحت الأنقاض سمع عبدالحميد تحذير عمنا هِرّْيبِي فرفع صوته (يا جماعة أنا حي أنا حي ) ( يا هريبي يا مسنوح أنا حي ) ومع ضربات معول الرحيمة وازالة الأنقاض بواسطة فريق الإنقاذ المساعد وكما طائر الفينيق نهض من تحت الركام عمنا عبدالحميد وهو يردد أنا حي أنا حي وقد غطاه الغبار من اعلي رأسه حتى اخمص قدميه .
(7)
عمنا هِرّْيبِي كان هو أول من وصل الي مكان عبدالحميد وسط الدكان ، فرد هريبي ذراعيه واحتضن عبد الحميد وقد طفرت الدموع من عينيه وهو يردد ( حمداً لله علي السلامة ! ) ثم التفت الي الرحيمة وفريق الإنقاذ وجموع المتفرجين وصاح بهم : شكر الله سعيكم يا جماعة تعالوا وقولوا للمرحوم حمداً لله علي السلامة .
(8)
حمل الرحيمة وفريق الإنقاذ عبدالحميد جرياً نحو المستشفى وتبعهم عمنا هريبي ومحمد صالح وباقي الجيران إلي حيث عيادات الطوارئ والتي كانت تسمى وقتها عيادة الحوادث . عبدالحميد الذي وقف علي رجليه ولا ينفك يطمئن جيرانه بانه بخير . ومع ذلك امسك به فريق الحوادث ووضعوه علي نقالة ودخلوا به على الطبيب المناوب . وسأل الطبيب الجمع ( ماذا حدث للرجل ) تبرع عمنا هِرّْيبِي بالرد وقال للطبيب : ( والله المرحوم دا !! قصدي عبدالحميد دا كان نائم داخل دكانه في أمانة الله عندما هطلت الأمطار وانهار السقف علي رأسه الكبير دا وكاد يموت لولا ان الله قد جعل لكل اجل كتاب ولولا همة الرحيمة وفريق الإنقاذ من الجيران الاوفياء ) إبتسم الدكتور وقد أدرك ما بين عبدالحميد وهرببي والجيران من مطاعنات وطرائف وشرع علي الفور في الكشف علي عمنا عبدالحميد ، الذي لم يك به سوى بعض الخدوش وجرح قطعي طويل علي ساعده الأيمن قرر الدكتور خياطته .
(9)
وقف عمنا هِرّْيبِي عند رأس عبدالحميد وهو بنبه الطبيب 😞 يا دكتور وانت تخيط الجرح أعمل حساب المرحوم دا فهو لا يحتمل الألم ، وزيد من جرعات البنج قدر إستطاعتك وإذا مات عبدالحميد بفعل التخدير فهو اصلاً ميت ميت وان نجا برضو سلامة )!!
(10)
حضرت الجارة لتسأل عن عبدالحميد أها المرحوم حاله كيف ؟ رد هِرّْيبِي نحمد الله أن سمع الرحيمة ورهطه من المنقذين تحذيره المدوي والمستمر بان (يعملوا حساب المرحوم ) والا لكان مرقد المرحوم الآن سرير في مشرحة الموتى. ومع ذلك لم يتأخر هِرّْيبِي فطلب من الجارة العزيزة العناية بالمرحوم والاهتمام به وأوصاها خيراً بالمرحوم الي حين أمطار أخرى وزوابع ورعود، الي حين إستكمال عين الخريف في السودان دورتها من لدن الثريا والعصا العطشانة الي العوا والسماك ، وصاها عليه إلي حين عواصف ومطبات هوائية في رحم الغيب لا تنتهي ولا سبيل إلي توقفها .
توفي عبد الحميد و هِرّْيبِي والرحيمة تتنزل علي قبورهم شآبيب الرحمة والمغفرة، وإنكسر المرق وأتشتت الرصاص ولم يك هناك محيص فمات عبدالحميد تحت الردم ، فلم يجد الرحيمة يزيل الأنقاض ولم يك ثمة عمنا هِرّْيبِي يمسح الغبار عن وجهه وهو يردد “أعملوا حساب المرحوم” !!
