أسئلة ما قبل العودة (1-2)
أميمة عبدالله
هنا أحاول التفكير مع الآخرين جهراً، الآن الكثير من الأسر السودانية تستعد للعودة ربما قبل شهر رمضان المعظم، والبعض الآخر فضل العودة بعد الشهر، المؤسسات تحاول ترميم منشآتها واستدعاء موظفيها ما أمكنها ذلك والحكومات الولائية تسعى جاهدة لسد النقص في الخدمات الأساسية.
الإنهيار المتسارع للجنجويد والمرتزقة نتيجة الخُطة العسكرية المحكمة التي وضعتها القوات المسلحة السودانية جعلت الأفراح تسري بين السودانيين كما تسري العافية في الجسد المريض، ونشطت في القلوب أشواق العودة واستيقظت أحلام الرجعة للبيوت الدافئة.
السودانيون مشغولون الآن بتجميع ما يمكن ترحيله ليعودوا به إلى مدنهم التي جعلتها المليشيات خاوية على عروشها، والشباب بدأ رحلة العودة قبل الأسر للإنخراط في أعمال النظافة.
بعض المكونات السياسية أيضا مشغولة بترتيبات تشكيل حكومة ما بعد الحرب وحراسة نصيبها خوف أن يبتلعه الأسد، وأحزابُ أخرى مشغولة بلملمة انقساماتها ربما لضمان وزيادة حصتها، وأخرى تكافح التعديلات التي طرحتها القيادة على الوثيقة الدستورية لتناسبها، بيد أن أخرى تسعى للتبصير بالواقع الذي ينتظر مجتمعاتنا على ناصية شارع الإنتصار عند العودة.
سيواجه المجتمع بمختلف الجغرافيا والمكونات والقرى والمدن واقعاً صادماً وتدميراً شاملاً للبنى التحتية أولاً، وللروابط الاجتماعية وفقدان الثقة وأخذ الناس بعضها بالشك قبل التيقن ثانياً.
صدمة العودة للكثيرين ستتمثل في مشاهد الخراب والدمار التي طالت الشوارع والبيوت ومداخل الأحياء والمدارس والمستشفيات وخلو الكثير من البيوت من محتوياتها وإفراغها من مدخرات العمر من أموال وحُلى ذهبية وحتى أواني منزلية وأجهزة كهربائية حتى الكيبلات وأسلاك توصيل الكهرباء، كل شيء.
صدمة مدمرة للذين لتوهم أنهوا تأثيث بيوتهم بعناية فائقة وفاخرة في إختيار مستلزماتهم بعد أن صبوا فيها حصاد أعمارهم من أعمال غو اغتراب لعشراتِ الأعوام.
سيعود الكثيرون بقلوبٍ منكسرة وحمولة أحزان تراكمت خلال أشهر الحرب وذل النزوح وهوان اللجوء وخلو اليد من المال في ظلِ إنعدام لسُبل كسب العيش وغلاء مستلزمات الحياة الضرورية، سيعودون ليجدوا الخسائر الفادحة وآثار المعارك والكثير جداً من جثث المرتزقة وبقايا رائحتهم النتنة عالقة في الفضاء.
سيكون على الأبناء حمل تخفيف صدمة ذلك الواقع الملئ بالتحديات الإنسانية والإقتصادية، على أمهاتهم وآبائهم.
ستعود الأسر محملة بالأيام الثقيلة التي مضت والكثيرون منهم مرتبطين ببيوتهم ارتباطا وثيقاً، لا يعرفون غيرها.
و سيجد أصحاب العز المنهوب أنفسهم بحاجةٍ إلى المساعدة الإنسانية الضرورية.
ستعود الأسر بيد أنها ناقصة، مات منها بالأمراض والصدمة وقهر التهجير وإستباحة البيوت من مات، أمهاتٍ وآباء واخواتٍ وأبناء، جنود ومدنيين، حزنٌ عميق خبئ سيصحب هذه العودة رغم دموع الفرح.
أما أولئك الذين بقوا ولم يغادروا مناطقهم فإن نصيبهم كان وافراً من العنف والصفع والركل والقصف والقلق والإكتئاب وزغللة العقل لمن أجبرته الأيام على مقابلة ومصافحة ومعايشة المليشيات المرتزقة الأنجاس، من قابل الشيطان قطعا لن ينجو، لن يسلم العقل والجسد من أذائه مهما تحصن، ستجثم تلك الذكريات كما جبل أحد راسخة على ما تبقى من عمر رسمةً ووسمةً تُبدغ بها باقي الأيام.
كيف نشأ ونما ذلك الحقد الموغل في السواد وتلك الرغبة الهادرة في الخراب والتدمير في قلوب الجنجويد والمليشيات. هل كان هؤلاء بيننا يمشون في شوارعنا ويأكلون معنا من ذات الطبق!؟
تحولات كبرى حدثت في المجتمع السوداني بعضها يكاد يكون جذرياً، وكما أن إجتياح المجاعة لأي دولة يغير من سلوكها الغذائي، كذلك صدمات الحروب المفاجئة القاسية فإنها تدمر الثقة بين مكونات المجتمع الواحد، وتشوش على العلاقات وتُكسب من تعرض للاذئ صفات لم تكن فيه وخصال جديدة بقدر حجم الصدمة، فيتحول السلام والرضا إلى غضب ورغبة تشفي وإنتقامُ عاجل، وإسترداد حق دون اللجوء إلى محاكم القانون لأنها قد تكون بطيئة بالنسبة إليه في إجراءاتها.
ستزداد التوترات عند العودة بين مكونات المجتمع وبين الأفراد في الأحياء، ستُجبر الأسر التي ساندت المليشيات وعاونتها على الهروب خوفاً من عواقب فعلتهم، وربما لن تتمكن من العودة ثانية مطلقا.
مَن ساعد المليشيات المرتزقة المجرمة على النهب والسرقة والإذلال، من كان الدليل ومن أرشد ومن فتح باب بيت جاره الثري، ومن أطلق العنان لحقده تجاه الآخرين وصفى حساباتٍ قديمة عبر المرتزقة؟
سينقسم الناس وفقا لما خلفته هذه الحرب إلى مجموعات يوحدها الحق المسلوب وأخرى أجرمت في حق جيرانها وأهلها ومعارفها ولن ينسى أصحاب الحق المنهوب حقهم أبدا.
سيواجه المجتمع السوداني تعقيدات العودة مالم تتجه الدولة للمعالجة منذ الآن..
نواصل إن شاء الله
نقلاً عن (المحقق)