رأي

*أزمة التحليل السياسي في السودان*

*خالد محمد أحمد*

السودان ليس بدعًا فيما يتعلَّق باختلال بنية التحليل السياسي؛ غير أن خصوصية السياق فيه تُضفي على هذا الخلل طابعًا أشدّ تعقيدًا، فالمشكلة لا تقتصر على محدودية الأدوات المعرفية أو شُحّ المعلومات المتاحة أو تضاربها، بل تتعدَّاها إلى أن المحلّل نفسه يكون، في كثيرٍ من الأحيان، أسيرًا لارتباطاتٍ مختلفة تُخرجه من موقع الراصد أو الناقد المحايد إلى خانة الطرف الفاعل في الصراع.

الواقع أن التحليلات بأنواعها المختلفة المتداولة في الفضاء العام السوداني، سواء عبر المقالات أو المنابر التلفزيونية، كثيرًا ما تفتقر إلى الموضوعية؛ فبدلاً من أن يسعى المحلّل إلى تفسير الوقائع واستكشاف دوافع الفاعلين، يتحوَّل إلى حامل لواءٍ لأجندة معينة، يمارس التأويل القسري للوقائع، ويُلبِس الرغبات لباس التحليل؛ ولا يتوانى بعضهم عن ليّ أعناق الحقائق، واختلاق السرديَّات التي تُجمّل هذا المعسكر أو تُجرّم ذاك.

ومن نافلة القول إن أيّ سوداني متعلّم أو مثقَّف هو بالضرورة داخل سياق التسييس أو التأدلج بحكم تراكم الأزمات السياسية وتاريخ الصراعات الاجتماعية. كما أن الصحفي، والكاتب، والمحاور، وصاحب العمود، كما هو الحال عالميًا، محكومون في الغالب الأعمّ ببيئة مؤسساتهم ومنطلقاتها وتوجُّهاتهم التنظيمية والقيود الحكومية، التي تجعل الحياد الكامل في التحليل ضربًا من الخيال. وحين يحاول المواطن العادي فهم المشهد عبر ما يُنشَر من تحليلاتٍ أو يُبَثّ من حواراتٍ، فإنه يجد نفسه أمام مقارباتٍ مشحونة بالتمنيّات والانحياز، لا تسعى إلى الإفهام، بل إلى الترويج والاصطفاف والهجوم على الخصوم. وهكذا يحيد التحليل عن غايته، ويتحوَّل إلى أداة تعبئةٍ لا تختلف كثيرًا عن الخطاب الدعائي المباشر. ولذلك، فإن الحديث عن تحليلٍ سياسي متحرّر من الانحيازات في السياق السوداني الراهن يبدو ترفًا ذهنيًا؛ فمناخ الاستقطاب الحادّ لا يفسح مجالًا للمحلّل المحايد، وكلّ من يحاول الوقوف عند مسافةٍ واحدة من الأطراف، وقراءة الوقائع بميزان العقل لا العاطفة والانتماء، ينال حظَّه من قوالب التصنيف والتهم الجاهزة شأنه شأن أصحاب الميول الفاقع لونها. وحتى الحوارات التلفزيونية، التي يُفترَض أن تكون منصَّاتٍ للنقاش المعرفي، تتحوَّل إلى ميادين صراعٍ تُدار فيها المعارك بالمهاترات والمغالطات، ويسعى كلّ طرفٍ فيها إلى القضاء على محاوره، لا بمقارعته الحجَّة بالحجَّة، بل بتكثيف الإثارة ليلحق بسوق “الترند”، فتُطِلّ علينا ألقابٌ وتوصيفات من قبيل “السوخوي”، و”المرعب”، و”معذّبهم”، وغيرها.

ما ذُكِر من عوامل يفرّغ التحليلات من مضمونها؛ ولذلك، لا يُستغرَب ندرة المحلّلين المحايدين في الساحة السودانية، وافتقار النقاش العام إلى الأصوات المتزنة. وغالبًا ما تأتي التحليلات الأكثر توازنًا من خارج الدائرة المحلية، من باحثين أو أكاديميين أجانب لا تجمعهم صلاتٌ أو مصالح بأطراف الصراع، ولا تحرّكهم رغبةٌ مباشرة في التأثير، وهو ما يمنحهم مسافةً منهجية أكبر، وانضباطًا معرفيًا أشدّ صرامة. وفي هذا السياق أيضًا، هناك عامل آخر يواجهه المحلّل السوداني وهو الفاصل بين حدود المعلومة والاستنتاج. فحين يكون المحلّل مُطَّلعًا على معلوماتٍ حسَّاسة، على سبيل المثال، بحكم موقعه أو علاقاته، يجد نفسه متنازعًا بين واجب التحفُّظ المهني والتقتير الاحترازي، وبين إغراء توظيف ما يعرفه في التحليل. لكنه في كلّ الأحوال يظلُّ ملزمًا بترجيح المصلحة وتجنُّب المفسدة، ولذلك تأتي تحليلاته دائمًا منقوصة بدرجةٍ ما، استنادًا إلي مبدأ “ليس كل ما يُعرف يُقال”. هذه المعضلة، وإن كانت أخلاقية بالأساس، فإنها تنتفي عند الباحث الأكاديمي الأجنبي المحايد، الذي يتحرَّك ضمن فضاءٍ علمي أرحب، وأقلّ تقييدًا بالمصالح والمخاوف.

لا محلّل بمنجاةٍ من عوامل التأثير آنفة الذكر؛ لكن المفلح من وازن بين تلك التأثيرات وبين أمانة التحليل، ومن اجتهد في التحرُّر من رغائبه كلَّما أحسَّ بأنها تجرُّه إلى تزييف الوقائع أو تضليل المتلقّين. غير أن التحدّي الأكبر لا يقتصر على وجود محلّلين صادقين، بل يشمل أيضًا وجود جمهورٍ يُحسن التمييز، ويجتهد في طلب التحليلات الرصينة بالاستئناس بآراء محللّين أجانب لا تحرّكهم الأهواء الداخلية السودانية. أما إذا اكتفى المتلقّي بالمحليّين، فيجدر به استصحاب العوامل المؤثرة، التي أشرنا إليها، ليتمكَّن من رصد شوائب الانحياز في أيّ تحليلٍ دون أن يغترَّ برصانته الظاهريَّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى