أربعون عامًا في حضن الدوحة: ذكرى لا تُمحى من ذاكرة الصحافة

حسن ابوعرفات

محطة خالدة
الثالث والعشرون من أغسطس عام 1985 لم يكن يومًا عابرًا في حياتي وحياة الزملاء اللذين جمعتنا دوحة الخير، بل كان محطة فارقة لا تُمحى من الذاكرة. ففي ذلك اليوم، حطّت أقدامنا أرض الدوحة لنبدأ تجربة صحفية جديدة مع صحيفة وليدة آنذاك حملت اسم “الخليج اليوم”. واليوم، وبعد أربعين عامًا على تلك الرحلة، لا أجد أن استعادة البدايات مجرد حنين شخصي، بل إطلالة على فصل مهم من ذاكرة الصحافة القطرية.
من الخرطوم إلى الدوحة: بداية الحلم
كانت البداية في الخرطوم، حين جاء الراحل حمد خميس السليطي – نائب رئيس التحرير للتعاقد مع صحفيين متخصصين في التحقيقات والدسك والأدب والاقتصاد. كنت وقتها مديرًا للإعلام في الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي، وعلى وشك الانتقال إلى العمل في الديوان السلطاني بسلطنة عُمان.
لكن السليطي، بإلحاحه الجميل، ومع مساندة الصديقين العزيزين الراحلين مصطفى سند وهاشم كرار، ومعهما الزميل صديق الزبن، استطاعوا أن يغيّروا وجهتي. هكذا وجدت نفسي، رغم رغبة الأسرة في أن تكون الوجهة عُمان، أشد الرحال معهم إلى قطر.
استقبال حافل وبدايات متواضعة
وصلنا إلى الدوحة في 23 أغسطس 1985، فكان في استقبالنا الوجيه علي بن سلطان العلي – المدير العام وصاحب فكرة تأسيس الصحيفة – رجلًا كريم المعشر حاضر النكتة، اعتاد أن يجمعنا كل أسبوع في مجلسه العامر بحي المعاضيد.
سكنا في البداية في شقة متواضعة في المطار القديم، وكان الزميل حمد السليطي يزورنا يوميًا ليطلعنا على شؤون الصحيفة التي كانت تُطبع آنذاك في مطابع علي بن علي في طريق الوكرة.
طرائف لا تُنسى
لم تخلُ تلك الأيام من الطرائف. فقد أوكلنا مهمة الطبخ إلى هاشم كرار وصديق الزبن. لكن إحدى محاولات هاشم “الإبداعية” في المطبخ انتهت بطبخة غريبة “ملاح ويكة بالكستر”يومها ضحكنا طويلًا، وقررنا بالإجماع إعفاءه من مهمة الطبخ رسميًا وتكليفه بمسؤولية النظافة، بينما تولينا المطبخ بالتناوب. كانت لحظات بسيطة، لكنها أضفت على البداية دفئًا ومرحًا ما زال حيًا في الذاكرة.
من “الخليج اليوم” إلى “الشرق”
لم تدم تجربة “الخليج اليوم” أكثر من ثمانية عشر شهرا لاسباب تشغيليه ، إذ تحولت لاحقًا إلى صحيفة جديدة حملت اسم “الشرق”، وهو الاسم الذي اختاره الإعلامي الكبير سعد الرميحي حين تولى رئاسة التحرير. مع كوكبه من الصحفيين المتميزين وبعده جاء الصحفي المخضرم وجيه أبو زكري – رحمه الله – الذي أدار المؤسسة بخبرة واقتدار. كان يعقد اجتماعات التحرير يوميا صباحا يستمع فيها إلى الملاحظات، ويشجع النقاش الحر وتقييم الانفردات بل كان يكافئ الصحفيين فورًا على “الخبطات” المميزة، مما أضفى على العمل الصحفي حيوية وروح منافسة.
وجوه لا تُنسى
في “الشرق” عشنا سنوات التأسيس الصعبة مع نخبة من الصحفيين والمبدعين من قطر ومصر ولبنان والجزائر واليمن والسودان. والهند والفلبين لكل منهم بصمته الخاصة في بناء الصحافة القطرية الحديثة.
عاد هاشم كرار إلى السودان لفترة ثم رجع لاحقًا عبر صحيفة الوطن، وكان كما عهدناه دومًا: روحًا مرحة و”أخو أخوان” لا يعرف الخصومة. أما الشاعر مصطفى سند، فقد أنهى عقده وعاد إلى السودان، لظروف صحية تاركًا أثرًا أدبيًا خالدًا.
الصحافة والذاكرة
إنها أربعون عامًا من الذكريات المتداخلة، المهنية منها والإنسانية، بما حملته من طموحات تأسيس وصدق بدايات ودفء صحبة. تجربة غنية توازي بدايات النهضة الإعلامية في قطر، التي تزامنت مع نهضة اقتصادية وثقافيةورياضية واسعة عاشتها الدولة.
وفاء واعتراف بالجميل
ونحن نستعيد هذه الذكريات، لا ننسى جهود الراحل الشيخ جبر بن جاسم آل ثاني – رحمه الله – أول رئيس مجلس إدارة لدار الشرق، وجهود الشيخ عبد الرحمن آل محمود، والشاعر الكبير مبارك بن سيف آل ثاني والسفير مبارك بن ناصر الكواري، والشيخ ثاني بن عبد الله آل ثاني، والشيخ خالد بن ثاني آل ثاني، والأستاذ عبد اللطيف آل محمود الرئيس التنفيذي الحالي لمجموعة دار الشرق، والأستاذ عباس الملا. والعميد الاستاذ ناصر العثمان وكوكبة من
قيادات التحرير والاداره اللذين قادوا سفينة المؤسسة في فترات مختلفه وكافة الزملاء٠٠٠٠. لقد عملوا جميعًا على تطوير المؤسسة، ونقلها من مجرد صحيفة إلى دار إعلامية متكاملة، هدفها خدمة المجتمع ودعم خطط الدولة في النمو والتطور.
خاتمة
اليوم، ومع تسارع الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي، تبقى ذكريات 23 أغسطس 1985 مشعّة بصدقها ودفئها. ليست مجرد محطة شخصية في حياتنا، بل جزء من ذاكرة وطنية صنعت للإعلام القطري رصيدًا خالدًا، وخلّدت أسماء رجال أوفياء ساهموا في بناء مؤسسة إعلامية رائدة تخدم الوطن وتواكب تطوره.وازدهاره

Exit mobile version