وفاة الزوج لا يضع المرأة في حالة اجتماعية غامضة فحسب، وإنما يترك غالبية النساء “الأرامل” داخل حجرات، وفي قارعة الظروف، يواجهن الحياة بمفردهن، دون استعداد لخوض هذه المعركة المفاجئة الطاحنة. الأعباء الجديد تضاعف مسؤولياتهن في نفس الوقت الذي يقلل المجتمع من قيمتهن بشكل مهين، ويجبرهن العيش الدائم تحت الظل، وبعيدًا عن اهتمام العائلة والدولة.
“آسيا” امرأة في مقتبل العمل، تقف على بعد أشهر للدخول في العقد الثالث، سنين عمرها الغض، وتجربة الزواج البسيطة لم تكن كافية بالقدر الذي يجعلها تواجه الظروف وحدها بعدما توفى زوجها وترك لها ثلاثة أطفال زغب ومتأخرات إيجار منزل ثلاثة أشهر.
خرجت من بيت الحزن ودخلت حجرات المعاناة، قالت آسيا : “كان علي مواجهة وضعي الجديد بواقعية، الذين تعاطفوا معي تركوني مثلما تخلى عني الحظ. بدأت العمل كعاملة بإحدى المدارس بالمنطقة، ولكن العائد المادي ضعيف لا يغطي نفقات حاجتي. تركت المدرسة، وعملت بائعة للأطعمة والشاي داخل السوق، أتحمل تفاهات بعض الزبائن، وأتفادي بقدر الإمكان أعين الذئاب البشرية التي تنهشني.
في الحرب زادت معاني كثيرًا، أصبحت نازحة، أطفالي فقدوا فرصة التعليم والاستقرار، لا أحد يساعدني سواء كان من الأهل أو الأصدقاء، بعضًا من رجال البر والإحسان قدموا لنا خدمات محدودة توقفت الآن، دائمًا اتساءل ما الذي فعلته حتى يتخلى عنا الجميع؟.. لم أجد إجابة كافية واضطر لتعليق السؤال”.
لم تكن “مريم”، التي تسكن في منطقة التعويضات، أفضل حالًا من ناحية مادية، فهي تعيش حياة قاحلة وتعيسة، بالإضافة إلى مجتمع ينظر إليها وكأنها وصمة. بعض النساء في المنطقة يرسلن لها أمثال شعبية تستبطن بالتشاؤم في كل مناسبة.
لكن “مريم” المتّوجة بلقبين “أرملة مطلقة” ترى أنها إمرأة غير محظوظة تزوجت من رجلًا كان يوفر لها حياة كريمة وعيشة مستقرة، ولكن بعد عام واحد مات زوجها في حادث حركة، دخلت بيت الحزن، وخرجت تبحث عن عمل تصرف منه على نفسها. ولأنها امرأة جميلة تزوجت للمرة الثانية وبعد ثلاث سنوات مرض الزوج الثاني، مات وترك لها طفلين، توفي أحدهم في السنة الأولى للحرب بعد إصابته الأنيميا بسبب الجوع وسوء التغذية.
انتقلت الأرملة إلى الوادي الأخضر وهناك عرض عليها عامل الزواج، وافقت. أخيرًا وجدت شخصاً يعتني بها ويخفف عنها العبء، ولكن بعد مرور ستة أشهر اكتشفت أن زوجها عاطل عن العمل، ومجرد “شفشاف” وهو لقب للصوص انتشر في فترة الحرب منح شرعية اجتماعية لبيع المسروقات بالحلال.
اشتد الخلاف بينهما ووقع الطلاق، ونالت اللقب الثاني “مطلقة”، هذا الوضع دفع بها الخروج من حجرتها للعودة إلى عملها “دلالة” لتربية طفلها الوحيد.
قالت “سامية” 50 سنة والتي تعمل في محلات بيع الأطعمة الشعبية بصفة مؤقتة، إن زوجها توفي قبل خمس سنوات، وترك لها سبعة أطفال، وعلق على رقبتها مسئولية أكبر من قدرتها، خاصة وأن الزوج مات فقيرًا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا. كل العائد من عملها يذهب للأكل واحتياجات الأبناء الصغار.
قبل الحرب طرقت إبواب الحكومة لمساعدتها ولكن محاولاتها باءت بالفشل خاصة عندما قال لها مسئول “هناك مليون أرملة، ليس لنا ميزانية لدعم هذا الكم الهائل، أذهبي من أمامي”. طردها ولم تجد من يقف في صفها، ذهبت وبداخلها حسرة، ليس من رد المسئول القاسي، ولكن بسبب حظها الذي جعلها في قارعة الظروف تستجدي الموظفين وبعض المواطنين والأقرباء الذين ينظرون إليها بنظرة دونية، بعيدًا عن المسئولية الاجتماعية وواجب الدولة.
ملف الأرامل في شرق النيل بمدينة بحري يضم في صفحاته المطوية المنسية، عدد كبير من قصص النساء المحزنة المؤسفة، وبالرغم من ارتفاع نسبة هذه الشريحة في الفترة الأخيرة بسبب الحرب، المرض، انعدام الرعاية الطبية والفقر، إلا أنه لا توجد قائمة رسمية لحصرهن سوى قوائم تملكها بشكل خاص منظمات إسلامية، وأجنبية، وكذلك الجمعيات النسائية التي تنطوي تحت مسمياتها نشاطاتها مختلفة من بينها دعم شريحة الأرامل.
قبل الحرب لم يكن للسودان وولاية الخرطوم قاعدة بيانات، ولكن المنظمة الوطنية للأرامل والأيتام، احصت عدد النساء اللاتي فقدن أزواجهن في ظروف وحوادث مختلفة تقدر بحوالي “8393”، وهو بالطبع نسبة ضىلة مقارنة بعدد الأرامل على مستوى العالم الذي يقدر بـ”258″ مليون أرملة تعيش عشرهن في ريقة فقر مدقع.
وبالرغم من مرور” 18 ” يومًا على موعد اليوم العالمي لـ”الأرامل” الذي يوافق 23 يونيو من كل عام، إلا أن العالم المشغول بالحروب لم يحتفل بهن حتى اليوم.
