خالدة عبد السلام
لم تكن ” فوضى ديسمبر” يومًا بريئةً، ولم تكن “قحت” يومًا مظلةً للتمثيلِ الوطنيِّ، ولم يكن “الاتفاقُ الإطاري” يومًا دعوةً للحلِّ…
بل كانتْ كلُّها محطاتٍ مدروسةً في مشروعٍ تغريبيٍّ ضخمٍ، هدفُه الحقيقيُّ إقامةُ دولةٍ بلا عقيدةٍ ولا شريعةٍ، وبلا ولاءٍ للهِ الأحدِ الفردِ الصمدِ، وبلا ارتباطٍ بثوابتِ وأخلاقِ ومعتقداتِ الأمّةِ. كانت الخيوطُ تُنسَجُ بدقةٍ، والأقنعةُ تُرتدى بمهارةٍ، حتى سقطتْ أخيرًا من على رؤوسِ أصحابِها، وتكشَّفَ وجهُهم الحقيقيُّ، فما عاد في الأمرِ لَبْسٌ ولا في المعركةِ غبشٌ ..
لم يكنْ إعلانُ حكومةٍ علمانيّةٍ من قبلِ التمرّدِ الدمويِّ ممثّلًا في “ميليشيا الدعمِ السريع” و”الحركةِ الشعبيّة” وعملاء “قحت” ومن لفّ لفَّهم حدثًا مفاجئًا ولا مدهشًا لمن أحسنَ قراءةَ المشهدِ وفهمَ جذورِ الفتنةِ بعينِ البصيرةِ، مشهدٌ بدأت فصولُه منذ لحظةِ الانقلابِ على الإنقاذِ، كخطوةٍ أولى في مشروعٍ مسنودٍ دوليًّا لإزاحةِ الإسلامِ من هُويةِ الدولةِ، ولتصفيةِ تجربةِ المشروعِ الإسلاميِّ الذي أرعبَ العدوَّ يومَ كان يملكُ قرارَه ويذودُ عن دينِه ووطنِه ، ولم يكنْ الاتفاقُ الإطاريُّ إلا جسرًا لعبورِ قوى العمالةِ لتنفيذِ أكبرِ مشروعٍ لتفكيكِ الدولةِ والجيشِ والارتهانِ وتسليمِ القرارِ الوطنيِّ للقوى الأجنبيّةِ ، ولم يكنْ مستغربًا أن تُختتمَ فصولُ المؤامرةِ بالحربِ، بعد أن استعصى على مهندسيها تمريرُ مشروعِهم بالتراضي أو بالضغطِ السياسيِّ ، فلجأوا إلى السلاحِ والمذابحِ والاستباحةِ ، وسخّروا آلةً إعلاميةً شيطانيةً لتبريرِ الجرائمِ، في محاولةٍ خاسرةٍ لتزييفِ الحقائقِ وتضليلِ الوعيِ…
غيرَ أن ما لم يكنْ في حسبانِهم، هو صمودُ الجيشِ وثباتُه، وتماسكُ الصفِّ الوطنيِّ خلفَه، والتفافُ الأمةِ السودانيةِ _وفي مقدمتِها الحركةُ الإسلاميّةُ قيادةً وعضويةً_ حول رايتِه، لا من بابِ التكتيكِ السياسيِّ، بل باعتبارِه خيارًا مصيريًّا لحمايةِ السودانِ وهُويّتِه من الذوبانِ في مستنقعِ العمالةِ الدوليةِ والتغريبِ المسلّحِ. لقد راهنوا على أن تنهارَ المؤسسةُ العسكريةُ خلالَ أيامٍ، فإذا بها تصمدُ شهورًا، ثم تستعيدُ توازنَها وتنتصرُ وتتقدّمُ، وتتحوّلُ إلى نقطةِ إجماعٍ وطنيٍّ غيرِ مسبوقٍ، فانقلبَ السحرُ على الساحرِ…
ومع هذا التحوّلِ الكبيرِ في مجرياتِ المعركةِ، لجأ العدوُّ إلى الورقةِ الأخيرةِ: التدخلِ الدوليِّ، وبدأت ما تُسمّى بـ ” الآلية الرباعية” و”السداسية” تلعبُ أدوارًا قذرةً، في محاولةٍ للضغطِ على السودانِ وفرضِ وصايةٍ عليه، بالتنسيقِ مع قوى التمرّدِ ومراكزِ الارتزاقِ السياسيِّ. ومن رحمِ هذا الضغطِ الأجنبيِّ، خرجتْ مسرحيةُ ” حكومةِ السلامِ العلمانيّةِ”، لتُعلنَ على الملأِ أن المعركةَ لم تكنْ يومًا حولَ الديمقراطيةِ أو العدالةِ، بل كانتْ قفزًا فوقَ الجذورِ وتكريسًا لانقلابٍ على السودانِ، شعبًا وهُويّةً ودينًا…
طالعْنا تصريحاتٍ لمولانا أحمد هارون ، الرئيسِ المكلَّفِ لحزبِ المؤتمرِ الوطنيِّ ـ في حوارِه الأخيرِ مع وكالةِ رويترز بتاريخ ٢٤ يوليو ٢٠٢٥ ـ أقلُّ ما يُمكنُ وصفُها أنّها صوتُ الوعيِ السياسيِّ والبصيرةِ النافذةِ والوطنيّةِ الحقّةِ. هذه التصريحاتُ وكلُّ ما تضمّنته من رسائلَ سياسيّةٍ لم تكنْ موقفًا حزبيًّا خاصًّا، بل كانتْ ردًّا حاسمًا على هذا التغوّلِ الخارجيِّ على السيادةِ الوطنيّةِ وعلى مؤامراتِ أذيالِ العمالةِ، فشكّلتْ كلماتُه وتصريحاتُه موقفًا وطنيًّا مسؤولًا ومدروسًا وخارطةَ طريقٍ للثباتِ والمواجهةِ وفقَ رؤيةٍ وطنيّةٍ جامعةٍ، ودعوةً صريحةً لإعادةِ تشكيلِ الوعيِ العامِّ وفقَ معادلةٍ محدّدةٍ، وهي الاصطفافُ الكاملُ مع الجيشِ وقيادتِه وشعبِه، حتى دحرِ آخرِ معاقلِ التمرّدِ وأذنابِه…
ما بين النداءِ المستمر لمولانا و شيخِنا علي كرتي ، والتصريحاتِ الحاسمة لمولانا أحمد هارون ، ارتسمتْ خريطةُ الموقفِ التنظيمي للحركة الإسلامية و لحزب المؤتمر الوطني : بأنّه ثابتٌ على الحقِّ ، وفيٌّ للوطنِ ، مستعدٌّ للجهادِ والبذلِ والتضحية ..
وفي الطرفِ الآخرِ، سقطتْ ورقةُ التوتِ و وقفت”قحت ” مكشوفةً بلا غطاءٍ ، وانكشفَ وجهُها كما هو : عدوًّة للهِ، وللوطنِ، وللشعبِ، وانكشفتْ عورةُ مشروعِها العلمانيِّ، وكفرُها البواحُ الذي لا يحتملُ التأويلَ ،حتى وان تعددت واجهاتها ، لم يعودوا يُحاربون ” الإسلاميّين” فقط، بل يُحاربون دينَ الأمّةِ وشعبَها وهُويّتها…
يا أبناءَ السودانِ الأبرار
هذه لحظةُ الحَزمِ لا التردّدِ
ولحظةُ وضوحٍ لا رماديّةٍ
ولحظةُ العَزمِ لا التَّوسُطِ ولا المُهادنةِ
اجعلوا من وحدتِكم جدارًا يّصدُّ المؤامرة ، ومن لحمتِكم كابوسًا يقضّ مضاجعَهم ، ومن عزّتِكم شوكًة في حلقِ الطامعين ..
فإنْ أعلنوها علمانيّةً، فأعلنوها جهاديّةً
وإنّها ـ واللهِ ـ لجهادٌ: نصرٌ أو استشهادٌ..
