رأي

أحضان النيل: حين يهمس القدر

محمد يوسف العركي 

على منحنى النيل الشرقي، تحتضن قرية “أولاد البشرى” نفسها كعروسٍ نائمة على هدهدات الموج، تتنفس نسمات المساء العليلة، وتصحو قبل بزوغ الشمس؛ ففي هذه القرية لا مكان للنوم حين يدعو العمل.

تروي الحكايات المتوارثة أن “بشرى” – الجد الأكبر – جاء إلى هذا المكان من “بركة التل”، قرية تبعد عن هذا المكان نحو ثلاث ساعات بالدواب. لم يكن وصوله صدفة، بل نداءً كان يسمعه من حلم تكرر، كان يرى شخصاً يشببه في الملامح إلا أن عمره كان كبيراً، حيث وصف له المكان بدقة، وخط له بعصاه على الأرض فيما يشبه خارطة البيوت القروية الكبيرة. ومع خطوط العصاة على الأرض كان الشيخ يردد: “سبحان الذي يحيي الأرض بعد موتها”.

اتسعت القرية وامتدت شمالًا وجنوبًا، لكنها لم تبرح ضفاف النيل. لا زراعة فيها بالمعنى المعروف، بل “جروف” صغيرة تكفي قوت أهلها. رجالها، غالبًا ما ينهضون مع أول خيط من الفجر، صيادون مهرة وتجار أسماك، تعيش بيوتهم على خير النيل الوفير.

توفي البشرى الكبير منذ خمسين عامًا، وخلفه ابنه القاسم، الذي غدا مرجعية القرية. يمتلك القاسم أسطولًا من المراكب، وأبناؤه يتوزعون بين الصيد والتجارة. ديوانه الفسيح هو ملتقى أهل القرية في عظائم الأمور، كوالده، رجلٌ سخي اليد، طيب الحديث.

وككل عام، كان النيل يعلو، لكنه لم يتجاوز التل الرملي الذي يتخذه السمار مجلسًا لأنسهم في غير موسم الفيضان. كم من حكايات حبٍ عفيفٍ تشربتها أمواج النيل وحفظتها حبات الرمل في داخل القواقع المنتشرة على الشاطئ.

صدى الغياب:

“فرح الكرار”، هكذا كان اسمه، شابٌ يقول أقرانه أن تمساحاً قد اختطفه ذات مساء، حين ذهب وحيدًا لتغيير شبكة الصيد لمركب عمه وحماه الحاج النعيم، شقيق القاسم. آخرون يهمسون أنه غرق بصعقة كهربائية من سمك “البردة” المنتشر. وُجدت أغراضه في المركب، لكن جثته لم يُعثر عليها رغم أسبوع كامل من البحث، ومتابعة السلطات لمجرى النيل. رواية أخرى، أكثر روحانية، تقول إن فرحًا وجد نبي الله الخضر وسار معه إلى بلاد الله.

كان فرح قاصًا بارعًا، يحفظ عن ظهر قلب ما يروى عن كرامات الأولياء والصالحين. ترك خلفه ابنًا وحيدًا، “النعيم”، سماه على جده لأمه. كان النعيم في الخامسة من عمره حين اختفى والده.

نشأ النعيم كبقية صبيان القرية، لكن أمه كانت حريصة على ألا يقترب من النيل. كان يقف عند التل بعد المغيب، ينظر وينادي مع صوت المذياع الآتي من إحدى المراكب، يحمل الموج صدى الصوت:

ما شفت عوض تابع النجمات فات لي قدام

يا ساري الليل

درويشًا من يا دوب صغير عشرة أعوام

الزول زول الله من الصلاح الرفعت عنهم الأقلام

يعود النعيم إلى الكتب، وأحيانًا يتصفح مكتبة جده البشرى التي أهداه إياها خاله القاسم حين رأى فيه شغف القراءة. تحوي المكتبة مصحفًا مخطوطًا يُقال إنه هدية من أحد الشيوخ، ومجلات قديمة، وبقايا مخطوطات مجهولة المعنى، ودفترًا تآكلت أوراقه بفعل الزمن والمناخ، مكتوبًا بحبر الدواية وقلم البوص.

نذير الطوفان:

في جلسة ترتيب زواج أحد أبناء القرية من فتاة من القرية المجاورة، اجتمع الرجال في ديوان القاسم، كعادتهم في الأفراح والأتراح. الفاضل الترزي، بصوته الذي يشبه مذيعي هيئة الإذاعة البريطانية، قال: “السنة دي الفيضان قالوا حيكون صعب جداً جداً.”

من داخل قسم النساء، حيث يُجهز الشاي واللقيمات، ردت عناية، والدة النعيم: “الراجل دا أصلًا ما بجيب خبرًا سمح. هسي الرجال مجتمعين لعرس ودست النفر، الحاجة الطيبة، في داعي للكلام دا؟”

دخل النعيم وبقية الشباب لأخذ أغراض الضيافة. دعت لهم ست النفر، والدة العريس، قائلة: “سألت الله ربي يبارك ليكم في عمركم، وأحضر عرس جَنى جَناكم يا رب العالمين. الله يرفع قدركم زي ما رفعتوا رأسي وعزيتوني في عرس ولدي دا.”

نظر النعيم لأمه وقال بنبرة ممتدة: “آمييييييييين.” ضحكت أمه وقالت: “أي آمين، بس بعد تتخرج، باقي لك كلها كم شهر يا الدخري.” وتمتمت بكلمات أغنية مشهورة:

الدكاترة ولادة الهنا والمهندسين ولادة المني والبقية لا هنا لاهنا.

 

سر المشروع الخفي:

عاد النعيم إلى سكن الطلاب الجامعي، فقد اقترب موسم الامتحانات، وكان ما يشغل باله هو مشروع التخرج. حيث اختار الطلاب مشاريعهم باكراً، وقد تبقت أيام قليلة للتسليم. كان النعيم متنازعًا بين عدة أفكار.

بينما هو مستغرق في التفكير، غلبه النعاس، فرأى والده فرح الذي قال له: ” مشروعك في البيت… مشروعك في البيت يا المبروك.”

استيقظ النعيم مفزوعًا، وقد وقع الدفتر من بين يديه وتدحرج القلم تحت الكرسي في شرفة غرفته بالداخلية.

على غير عادته، عاد النعيم إلى القرية في منتصف الأسبوع. طاف حول منزلهم ولم يرَ شيئًا يلفت النظر. دخل وسلم على أمه التي فزعت وقالت: “إن شاء الله ما في عوجة يا ولدي؟!”

قص لها الرؤيا. فقالت: “خلاص تعال فتش في مكتبة جدك، يمكن تلقى شي.”

بينما كان يقلب في الكتب والمجلات تذكرت والدته تلك الرؤيا المنامية لجده فأخذت تقصها له

توقف النعيم عن البحث وقال لأمه: “وجدتها! وجدتها!”

“بسم الله! شنو يا ولدي الوجدتها دي؟”

ضحك النعيم وقال: “دي قصة في الفيزياء بحكيها ليك يوم إن شاء الله. أنا راجع الجامعة يا أمي.”

“والله كان ما اتغديت ما تمشي من هنا!”

صدمة النيل الهادر

شق صوت “الحواتة” – صيادي الأسماك – صمت قرية أولاد البشرى. كان الجميع غارقون في نوم عميق، فالقرية كغيرها تنام عقب صلاة العشاء وتصحو قبل الفجر، أما الحواتة فيبدأ يومهم في الثلث الأخير من الليل.

كان الصوت متتاليًا، مفزعًا، حتى أن صداه تداخلت حلقاته. هرع الجميع نحو مصدر الصوت، فإذا بهم يجدون مشهدًا غير مألوف: المراكب في أعلى التل! لقد ابتلع النيل كل ما وراء ذلك.

امتزجت الدهشة بالخوف، وتعالى صوت المؤذن شيخ الطاهر عبر مكبرات الصوت في المسجد بالتكبير والتهليل والحوقلة. تدافع الشباب من خلف التل عبر ثلاث فرق، كل فريق يعمل في بناء سد ترابي من الجوالات. وفي صباح اليوم التالي، جاء أبناء القرية الذين يسكنون خارجها. الكل يعمل لمنع أمواج النيل المتدافعة من الوصول للقرية. حتى العريس، ابن الحاجة ست النفر، قطع شهر العسل وجاء مباشرة ليعمل مع الشباب. وعروسه انخرطت في العمل مع النساء في إعداد الأكل والشرب والشاي والقهوة للرجال.

حضر المهندس من مركز المدينة بصحبة الضابط الإداري، وقدموا بعض العون لقرية أولاد البشرى. اجتمعوا مع كبار القرية وبعض الشباب في ظل شجرة، حيث يجلس الكبار محفزين أبناءهم، فبعد أن أخذت منهم السنوات القوة البدنية، أعطتهم الحكمة وفصل الخطاب.

قال لهم المهندس: “إن التقارير تشير إلى أن الفيضان هذا في بداياته، والقادم أصعب. لا حل سوى أن ترحلوا من القرية حفاظًا على حياتكم.”

وقعت هذه الكلمات كالصاعقة على الجميع. البعض قال بعقله الباطن الذي استدعى كل الذكريات، وترجمته الألسن بقوة: “مستحيل طبعًا! نحن لو نموت هنا ما بنرحل نخلي حلتنا.”

طرق القاسم صامتًا، يضرب بعصاه الأرض، وينظر للسماء، وللنيل، وللشباب يعملون، وللقرية من وراء ذلك. ثم قال: “الخير فيما يختار الله… الخير فيما يختار الله.”

مشروع النجاة:

سلم جميع طلاب السنة النهائية في كلية الهندسة مشاريع التخرج. وحددت الجامعة تاريخ مناقشة المشاريع وفق الجدول الذي ظهر على لوحة الكلية. كان آخر مشروع سيناقش هو مشروع النعيم فرح، وكان في اليوم الأخير، وحده.

في اليوم الموعود، ومنذ الصباح الباكر، أعدت الكلية قافلتها المتجهة نحو قرية أولاد البشرى. لم يتخلف أي شخص من هيئة التدريس أو الطلاب. تحرك الجميع نحو القرية، وعند حدودها، كان النعيم يستقبلهم بمعية ابن خاله المنصور القاسم، وعربة “البوكس” هي دليلهم للوصول.

فور وصول رتل السيارات للقرية، بدأ الطلاب في العمل إلى جانب أهل القرية. وأخذت الطالبات أماكنهن جنبًا إلى جنب مع الأمهات والفتيات في إعداد الوجبات.تمت استضافت هيئة التدريس في الديوان الفسيح للحاج القاسم، الذي شكرهم نيابة عن القرية وعرّفهم على تاريخها وعلى الحاضرين من كبار أهلها.

وقبل أن تنقضي سحابة اليوم، وبعد وجبة الغداء، اتجه الأساتذة المسؤولون عن مناقشة مشاريع التخرج عبر حافلة صغيرة، ومعهم عميد الكلية والحاج القاسم وبعض أعيان القرية، إلى شرق القرية، حيث نُصب سرادق صغير يقي الحضور من أشعة الشمس التي بدأت تبرد إيذانًا باقتراب الغروب.

قدم الطالب النعيم فرح مشروع التخرج الخاص به، وعنوانه: “قرية أولاد البشرى النموذجية”. شرح تفاصيل المشروع وهو يشير هنا وهناك، لم يغفل حتى عن أدق التفاصيل. فور الانتهاء من الطرح والنقاش، وقف الجميع مصفقين. بكى خاله القاسم وهو يحتضنه ويقول: “سبحان الذي يحيي الأرض بعد موتها!”

وما أن تناقلت الصحف وأجهزة الإعلام ما حدث، حتى سارع الخيرون من كل مكان لجعل مشروع النعيم واقعًا، لا مجرد مشروع تخرج يوضع في أضابير المكتبات.

 

 

 

ولادة جديدة:

وفي يوم افتتاح القرية والاحتفال الكبير، الكل سعيد ببيته المبني بطراز يجمع بين الحداثة والموروث. الجميع مبتهج بالطاقة الشمسية التي جعلتهم ينعمون بالكهرباء، والنادي المبني بطريقة عصرية، والذي سموه “التل” تعويضًا معنويًا عن تل الرمال الذي كانوا يتسامرون فيه.

وبينما الكل في بهجة وسرور، انسحب النعيم بهدوء ومضى حتى وصل حدود القرية القديمة وقد غابت الشمس. كان يبكي ويقول:

ما شفت عوض تابع النجمات فات لي قدام

يا ساري الليل

درويشًا من يا دوب صغير عشرة أعوام

الزول زول الله من الصلاح الرفعت عنهم الأقلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى