والإدارة يا مشروع الجزيرة…

عبداللطيف البوني

ثمة ضحايا للتاريخ.. من ضمنهم مشروع الجزيرة.. لا بل قد يكون في طليعتهم . في ظني أنه لا يوجد مشروع لازمته ظروف نشإته لعقود من الزمان … أو كبله تاريخه ومنعه من المواكبة والتطور والانطلاق مثل مشروع الجزيرة… دعونا نثبت هذه الفرضية بالإدارة في مشروع الجزيرة.. ولكن قبل أن ندلف إلى ذلك الأمر… علينا أن نقر بأن المشروع صناعة بريطانية مية المية.. وقد صمم لخدمة أهداف بريطانية بذات النسبة..وقد حقق المطلوب منه أيضا بذات النسبة.. فقد قام علي أحدث ما وصلت إليه تقانات ذلك الزمن… وطبقت فيه سياسات ملبية لتلك الأهداف المطلوبة…بعد ذهاب البريطاني المستعمر ترك للسوادنة المشروع بكل إمكانياته المادية والتقنية.. كان ينبغي أن تتغير الأهداف لتلائم حاجة البلاد التي أضحت مستقلة… وبالتالي تتغير السياسات وبالتالي تتغير التدابير الإدارية القائمة… ولكن للأسف ظلت ثابتة على ماهي عليه…لماذا؟ هذا ما نحن بصدده في هذة السلسلة من المقالات…
الهدف الأساسي من المشروع كان انتاج القطن طويل التيلة لتغذية مصانع لانكشير البريطانية بالمادة الخامة… وعلى هذا الأساس تم وضع قوانين تعالج قضية الأراضي من حيث الملكية المنفعة وتوزيعها وتقطيعها الي أقسام وتفاتيش وقنوات وحواشات وكل الذي منه … وعلاقات الإنتاج… وحددت الإدارة العليا ثم الإدارة المباشرة … وكانت هذه الإدارة في غاية المركزية لابل مركزية في غاية الصرامة… فالاداريون من قمتهم في بركات أي الخواجات أنفسهم إلى أصغر غفير ترعة… ما عليهم إلا تنفيذ الأوامر ومن باب أولى أن يكون المزارعون كذلك… بعبارة مختصرة كل منسوبي المشروع خواجات على عمال على مزارعين حدودهم تنفيذ المطلوب منهم دون أي مساءلة…
أما الأوامر فهي تأتي من لندن حيث رئاسة الشركة التي تعرف اختصارا ب (السندكيت)… إلى بركات حيث رئاسة المشروع.. من لندن مباشرة إلى بركات دون المرور بالخرطوم أو مدني..نزول الماء في القنوات الرئيسية… ومنها للفرعية رمي البذور …الحش … الرش… الحصاد.. التسليم… صرف الاستحقاقات والأرباح.. كلها محددة بجداول زمنية منضبطة ..
بالتالي لم تكن هناك حاجة لمختصين في الزراعة أو الاقتصاد أو الهندسة… أو حتى إدارة الأعمال.. لذلك كان الاداريون الانجليز الأوائل معظهم ضابط جيش سابقين… والكبار منهم كانوا خريجي كليات نظرية… فمستر آرثر جيتسكل أشهر إداري بريطاني الذي بدأ عمله في المشروع من مفتش غيط صغير… إلى أن وصل محافظ المشروع كان خريج آداب تاريخ…
قُسم المشروع إلى أقسام وقمست الأقسام لتفاتيش ثم تفاتيش فرعية في كل تفتيش فرعي مفتش وهو الذي يباشر العمل على المزارع… ويقيم في سرايا غناء بعيدة عن قرى المزارعين… وفوقه الباشمفتش الذي يقيم في سرايا أكبر بها المخازن والحسابات… في الجزيرة يقولون لها مكتب… يخضع المفتش للباشمفتش… الباشمفتش يخضع لمدير القسم… الذي بدوره يتلقى الأوامر من المحافظ..كلمة تفتيش ومفتش هي ترجمة للكلمة الانجليزية Insepector.. فهو ليس مبتدع إنما عليه التأكيد من التنفيذ… فمفتش التعليم مثلا لا يدرس إنما عليه التأكد بأن المدرس نفذ المطلوب منه.. وفق المنهج المقرر…
بعد خروج الشركة الانجليزية حصلت السودنة… فجاء الاداريون السوادنة بنفس َمواصفات الخواجات… أي غير مختصين في الزراعة ولا في الاقتصاد فأول محافظ لمشروع الجزيرة سوداني هو مكي عباس…. معلم جاء للوظيفة من بخت الرضا حيث كان مسؤولا عن تعليم الكبار… أما المفتشين المباشرين فبعضهم كان مدرساً … وبعضهم مرافيد جيش مثل الشاعر الرقيق الطاهر إبراهيم… حيث كان ضابطاً في القوات المسلحة وقام بانقلاب فاشل. وبعد سجن قصير عين مفتشاً بمشروع الجزيرة. .. مكتب الفوار.. وهناك ألَّف بعض أغانيه ولحنها لإبراهيم عوض…. مثل أغنية يا خائن وكانت للذي وشى بالانقلاب لسلطات عبود…. ومثل أغنية فارقيهو دربي وأخليهو قلبي… أحلامك أحلام ما بحلم بيها… دنياك دنيا غير العايش فيها…
إبداع ياخي يا الطاهر…. بالله شوفوا إخليهو قلبي رغم عسكريتها جات حلوة كيف.. ملاحظة غير هامة، وهي أن معظم المفتشين الأوائل في مشروع الجزيرة كانوا من أولاد أم درمان (هاكم السرايات دي)…
لكن المشكلة كانت وين؟؟؟ في عهد الخواجات كما ذكرنا كانت الأوامر تأتي من لندن… وفي لندن كان القرار يصنع بعد دراسة وتمحيص…. من التقارير التي تأتي من ذات مشروع… ومن المشاريع في المستعمرات الأخرى… وأحياناِ تبعث الشركة بباحثين زراعيين ومهندسين للجزيرة ويرفعون نتائج دراستهم للشركة… فيصنع القرار ثم يتخذ ويرسل لبركات للتنفيذ دون أي سؤال.. أما بعد السودنة انقطع الإمداد من لندن… والخرطوم كانت شغالة سياسة وصراع على السلطة… فأوكل أمر المشروع للإداريين الذين حلوا محل الخواجات… وهم ليسوا زراعيين ولا حتى اقتصاديين ولا مختصين في إدارة الأعمال… وقد لخص هذا الوضع الدكتور توني بارنيت في كتابه القيم (مشروع الجزيرة… وهم تنموي) على حسب ترجمة صديقنا دكتور عبد اللطيف سعيد…. والذي كان ردا على كتاب آرثر جيتسكل (مشروع الجزيرة… قصة تنمية). .. ورغم المفارقة في عنواني الكتابين فقد كان الخواجتان صادقين كل فيما ذهبا إليه فبارنيت نظر لإنسان الجزيرة الذي كان ساعة دراسته في غاية البؤس والشقاء والتخلف… وجيتسكل نظر للأرض كيف أنها تحورت من أرض بور بلقع إلى منتج لأعظم محصول نقدي في العالم يومها وهو القطن….
عودة إلى موضوعنا وإن لم نخرج عنه… فقد وصف بارنيت الإداري والمفتش السوداني، بأنه ورث من الخواجة… الوظيفة المجزية… والسراية.. والتعالي على المزارع… وبالتالي كان مُصراً على المحافظة على السيستم القائم…. رافضا لأي تغيير… كان هؤلاء الاداريين شرسين جداُ في مقاومة أي تغيير… وعلى حسب الاستطلاع الذي إجراه بارنيت نفسه فإن أكثر من تسعين في المية كانوا رافضين لأي سياسة جديدة …. فكان التكلس وكان البوار …
فيما بعد حاولت الحكومات المتعاقبة …خاصة في عهد نميري …زحزحة المشروع من الوضع الذي تركه عليه الانجليز…وذلك بإدخال محاصيل جديدة .. وعلاقات انتاج جديدة… وتعيين خريجي زراعة كمفتشين وخريجي اقتصاد في إدارة المشروع ولكنها للأسف كانت تغييرات كمية… وليست نوعية… فلم تنقل المشروع النقلة المطلوبة …. وظل ما ورث عن الانجليز في معظمه هو القائم الي يوم الناس هذا…
وفي المقال القادم إن شاء الله نتطرق للَمزراع وهو الآن اس البلاء و الابتلاء… لنصل إلى خلاصة أن المشروع محتاج لمئات الآلاف من الزراعيين المختصين في الزراعة… وإلى مزارعين يعرفون قيمة ما تحت أيديهم من كنوز وسلطات… إنهم روح وريحان ومحور المشروع .. فالمفتش ومندوب المزارعين هما العلة… ليس في شخصيهما بل في طبيعة المؤسسة
Establishment… حتى لاتفهمونا غلط… فنحن لسنا ضد الإداريين ولا المفتشين ولا ممثلي المزارعين… فهم ناس عاديين… نواياهم حسنة مفطورين على حب الخير… نحن ندعو لا صلاح المؤسسة لكي
يؤدي كل واحد منهم دوره فيما يفيد البلاد والعباد… فمثلا تغيير العربات من الموريس الماينر الذي كان يركبه المحافظ…. إلى امتطاء الليالي العلوية…وتغيير أثاثات المنازل والمكاتب… والعلاج بالخارج وكل الذي منه.. كلها فساد في فساد ولكن فساد مؤسسي لا يعاقب عليه فرد… (كله بالقانون) فطريقة حساب التكلفة الإدارية كانت باينة التطفيف…
بالتأكيد ليس فيما نقول القول الفصل بل هي مجرد وجهة نظر… قابلة للحذف والإضافة… للأخذ والرد.. لابل الرمي في وجه صاحبها… فالمهم أن يتواصل الحوار حتى نصلح الحال… فكلنا متفقين أن حال المشروع لا يسر صديقا ولا يغيظ عدوا… ولابد من استعدال الحال المائل…. لذلك سنظل ندندن… إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا فــ (المراويد هدن جبل الكحل)..

Exit mobile version