مالك محمد طه
أوكرانيا ليست طرفاً في المعركة، ولكنها أرض لمعركة بين طرفين، هذه النظرية تترسخ يوماً بعد الآخر، لينجلي المشهد عن طرف روسي له حلفاؤه، وطرف غربي تقوده أمريكا والاتحاد الأوروبي.
أوكرانيا كانت مادة الصراع، الروس يريدونها دائماً موالية لهم، والغرب يريدها هراوة غليظة يمكن التلويح أو الضرب بها على رأس موسكو.. الوسيلة التي لجأ لها كل طرف في البداية هي السعي لتنصيب حكومة موالية في كييف.
مهما تكن نهاية الحرب التي تدور الآن فلن تعود أوكرانيا كما كانت صفوا للأوكرانيين، ولكنها ستحكم بإرادة الطرف المنتصر، إما بتنصيب حكومة مطلقة الولاء له على أحسن الفروض، أو بوجود عسكري كبير على أراضيها لحماية الانتصار، ولن تستطيع كييف أن تبرم أمرا دون الرجوع إلى الطرف المنتصر. بمعنى آخر إن لم تختف جغرافيتها فستختفي سيادتها.
سوريا سبقت أوكرانيا، وما تبقى من (سوريا الدولة) خاضعة حالياً للحماية بواسطة روسيا وإيران، ولكن دمشق خرجت من المعادلة كدولة متماسكة لها سيادة على أراضيها.
العراق خرج من حسابات الدولة أيضاً، وكذلك اليمن، اختلت فيهما المعادلة التي تقول إن الدولة عبارة عن أرض وشعب وحكومة تمارس السيادة، الأرض نقصت من الأطراف، وليست ثمة حكومة مجمع عليها، أو بالأحرى ليس هناك حكومة مركزية، والسبب هو صعوبة الوصول إليها.
تشكيل حكومة في اليمن مستحيل، وتكوين حكومة عراقية ليس أمرا سهلاً، وإنما يحتاج الأمر إلى النظر شرقاً باتجاه طهران، وشمالا ثم غربا باتجاه أمريكا.
ليبيا نموذج جيد لاختفاء الدول، هي مثل أوكرانيا، أرض معركة، فيها حكومتان، كل واحدة فيها تستند على أطراف دولية وإقليمية، حكومة في الشرق لها حلفاؤها ولهم وجود عسكري على الأرض، وحكومة في الغرب تتمتع بحماية عسكرية من الخارج.
الدروس التي خلفتها هذه النماذج، هو أن المدخل للسيطرة هو تغيير القيادة، وليس هناك ما يمنع التغيير حتى ولو كانت الحكومة ديمقراطية ومنتخبة وشرعية، الذي يمنع هو القوة والتماسك الداخلي. فقد أوشك أردوغان أن يتم تغييره رغم أنه منتخب، ولكن سقط بالفعل المنتخبان: مرسي، وعمران خان (بأدوات مختلفة).
ويستفاد من دروس هؤلاء الثلاثة أن الديمقراطية وحدها لا تحمي، إذا ما اتخذ كبار اللاعبين قرار الإطاحة، كما يستفاد منها أن الأنظمة غير الديمقراطية يمكن أن تجد الحماية الدولية إذا خضعت.
ربما يفضل بعض السودانيين النظر إلى أنفسهم على أنهم شيئ مختلف عند النظر إلى التغيرات التي تحدث من حولهم، قد يكون ذلك عن قلة إدراك، وربما لثقة مفرطة في النفس، وكلا المبررين لا يمثلان عاصما كافياً أن لم يحدث التماسك الداخلي الذي يمنع من نقصان الأرض أو السيادة.
يقترب السودان حالياً بشدة من فقدان سيادته، هذا إذا سلمنا جدلاً أن جغرافيته على مايرام، ويلامس الوضع أن يكون السودان مجرد منطقة نفوذ إقليمي ودولي لا أكثر ولا أقل، تحت ستار (نعم لحرية السودانيين، ولا للسودان الحر).
حتى لا يطمئن دعاة الدولة المدنية والديمقراطية، الذين يبجلون المجتمع الدولي (المتصدع)، ويتعلقون بأستاره لتحقيق المدنية، عليهم أن يرفعوا طرفهم قليلاً، ولكن ليس إلى أبعد من لبنان، فهي مدنية كاملة الدسم، ولكن من المستحيل أن يتم تشكيل حكومة فيها دون موافقة ثلاث عواصم على الأقل، وقد يمر على لبنان مدد عديدة دون تشكيل حكومة.
بعيداً عن التعصب وبنظرة موضوعية مجردة، فمنذ أبريل2019 لم يشهد السودان حكومة بهياكل مكتملة، كانت حكومة حمدوك الأولى والثانية بلا مجلس تشريعي (الضلع الثالث الذي تتكون منه الحكومات)، وبلا محكمة دستورية، وبلا سلطة تمكنها من تعيين الولاة، مع نفوذ خارجي كبير على القرار السيادي (تحرير الأسعار، تعديل القوانين، التطبيع، دفع تعويضات).
ثم جاءت قرارات البرهان في أكتوبر ونجحت في شيء واحد وهو أنها جعلت قحت على قدم المساواة مع القوى السياسية، ولكنها فتحت المشهد على حجم العجز في التوافق على حكومة، وكثافة الوجود الأجنبي ونشاطه في هندسة الوضع الداخلي.
الخارج هو الذي يتولى رسم ملامح الحكومة في السودان، مم تتكون؟ من يشارك؟ من لا يشارك؟ كيف سيكتب الدستور؟ هل ستقام الانتخابات؟ ومتى؟.. كل هذه الأسئلة الكبرى يتحكم الخارج في أكثر من خمسين بالمئة من إجاباتها.
وقطعاً فان من يزرع مدخلات التسوية، سيحصد مخرجاتها.
هل يختلف حال السودان حالياً عن نماذج الدول المختفية؟؟ مع الأخذ في الاعتبار أن الاختفاء لا يعني بالضرورة ذوبانه في البحر، ولكن خروجه من خانة الفاعل إلى المفعول به.