معتصم الاقرع
هذا البوست الطويل امتداد لما طرحته في البوست السابق: الثورة في السودان كانت حقيقية وناتجة عن تراكمات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة، لكنها سُرقت وتلوَّنت مبكراً. ما احاول ان أكتبه هنا لا ينتقص من دور الجماهير ولا من دم الشهداء، بل يحاول أن يشرح كيف التقط اللاعبون الدوليون والإقليميون نبض الشارع مبكراً، ودخلوا عليه عبر التمويل والتدريب وشبكات النفوذ، ثم أعادوا تشكيل مسار الثورة بما يناسب مصالحهم. منذ العام 2013 وحتى اندلاع الثورة في ديسمبر 2018 ازدهر نشاط ما يعرف بمنظمات المجتمع المدني وبرامج التدريب للشباب والناشطين. جرى تنظيم ورش حول التنظيم السلمي، الحملات الرقمية، التوثيق، المناصرة، القيادة والمسيرات. بعض من هذا العمل كان مشروعاً ومفيداً لمواجهة قمع البشير وقد مول داخليا مثل دعم بعض الاحزاب لتجمع المهنيين، لكنّه أيضاً فتح الباب لتدفقات تمويل وتدريب أجنبي استُخدم لاحقاً لتوجيه المسارات السياسية. مؤسسات مانحة غربية معروفة قدّمت منحاً وورشاً لجهات سودانية عديدة تحت عناوين مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء القدرات المدنية. بعض المنظمات السودانية المعروفة تلقت دعماً مادياً أو تدريباً مباشراً من جهات دولية منذ 2013، مثل مجموعات شبابية ومدنية من بينها “قرفنا” و“الديمقراطية أولاً” وجهات مجتمع مدني فاعلة في الخرطوم والأقاليم. كما برزت منظمات محلية مثل المركز الإقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني وغيرها، تلقت منحاً أو تكريماً من مؤسسات أمريكية وأوروبية مهتمة بالتحول الديمقراطي في السودان. هذه ليست اتهامات، لكنها مؤشرات على أن هناك شبكة دعم مدني دولي نشطت مبكراً وأن بعض هذا الدعم لم يكن بريئاً من الأجندة السياسية. إلى جانب التمويل، ظهر التدريب المنهجي المستورد من تجارب خارجية، مثل التدريب على التنظيم اللاعنفي والتكتيكات البصرية وأساليب الحشد التي اشتهرت بها حركات أتت من أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كما ذكرت بعضها فى البوست السابق حين اعطيت امثلة للثورات الملونة. بعض المراكز التي نقلت هذا النوع من التدريب كان لها سجل سابق في تدريب حركات مثل “أوتبور” في صربيا والتي أصبحت ملهمة لما سُمي لاحقاً بالثورات الملونة. ويُذكر أن بعض نشطاء السودان شاركوا في برامج تبادل أو ورش خارجية مرتبطة بهذه الشبكات. خلال ذلك الزمن (2013–2018) تغيّرت أيضاً نظرة الولايات المتحدة والغرب إلى السودان. الدولة التي اعتُبرت لسنوات عدواً شبيهاً بإيران، خاضعة للعقوبات ومعزولة سياسياً، بدأت تُعامل بشكل مختلف بعد انخراط الخرطوم في التحالف العربي في اليمن، وبعد تقاربها مع الخليج، خصوصاً الإمارات والسعودية. هذا التحول فتح الباب لمسار رفع السودان من قائمة الإرهاب، وحدّد للسودان دوراً جديداً يمكن التحكم في مخرجاته: لا ثورة جذرية، بل انتقال مُدار أو ثورة ملوّنة قابلة للتوجيه. عندما اندلعت الثورة في 2018–2019 كان المشهد الشعبي حقيقياً، لكن سرعان ما التقطته القوى الدولية. ظهرت حملات رقمية ضخمة بسرعة، مثل “الأزرق من أجل السودان”، وهي حملة تضامن عالمية انطلقت بشكل فيروسى للتضامن مع الضحايا. كانت إنسانية ومؤثرة لكنها في الوقت نفسه مثال على كيفية تحويل حدث مأساوي إلى رمز بصري سهل التداول، وهو من أهم أدوات الثورات الملونة: تبسيط الصراع وتحويله إلى صورة يمكن التحكم في سرديتها. أما في الداخل وكما ذكرت سابقا، فقد ظهر ما يمكن وصفه بـ”الكمبرادور المدني”: شخصيات ومنظمات سياسية ومدنية ورجال أعمال تلقوا تمويلاً أو تدريباً أو اعترافاً دولياً، فصاروا واجهات تفاوضية تتحدث باسم الشارع، مع أنهم لم يكونوا صانعي الثورة الحقيقيين. هؤلاء كانوا الأقدر على الجلوس مع العسكر، والتواصل مع السفارات، والمشاركة في غرف مغلقة، بينما لجان المقاومة التي فجّرت الشوارع بقيت خارج إطار التفاوض الفعلي. ومن الملاحظ أيضاً أن بعض السياسيين الذين كانوا قبل الثورة يدعون للمشاركة في انتخابات 2020 في ظل النظام القديم، انقلب خطابهم فجأة بعد اندلاع الثورة وتحوّلوا إلى “قادة” للمشهد الجديد، ثم صاروا جزءاً من التسويات. هذا التحوّل السريع لم يكن بريئاً، بل جاء في لحظة أصبح فيها الخارج يبحث عن واجهات مدنية يمكن استخدامها لإدارة الانتقال وتحييد الشارع. التحالف الذي تشكّل بعد سقوط البشير كان هشّاً بطبيعته: قوى إقليمية تريد إعادة ترتيب النفوذ في الخرطوم، وقوى دولية تريد دمج السودان في نسق اقتصادي وسياسي جديد، ونخب محلية تبحث عن مكاسب بعد سقوط النظام، وقاعدة شعبية تبحث عن عدالة وحرية حقيقية. وعندما بدأت تتصادم مصالح هذه الأطراف انفجرت الحرب. موقفي الواضح هو أن الثورة السودانية قامت نتيجة تراكمات موضوعية عميقة، لكنها بدأت تُسرق وتُلوَّن منذ أيامها الأولى. الاختراق لم يبدأ بعد سقوط البشير، بل قبل الثورة بسنوات عبر التمويل والتدريب والارتباطات الخارجية. وأنا أكتب هذا لأن بعض الاصدقاء ما زالوا يصرّون على أن الثورة بريئة من أي تلوين، وأن ما حدث مجرد سرقة لاحقة، بينما الواقع أكثر تركيباً: الثورة حقيقية، نعم، لكن تلوينها بدأ قبل ميلادها العلني. وسأواصل في الأيام القادمة هذا التشريح والتحليل لما حدث قبل الثورة وأثناءها وبعدها، لأن الآن وبعد ان اكلتنا الحرب صار هو الوقت المناسب للحديث بصراحة وكشف ما جرى بلا تردد. ارجو من كل شخص لديه معرفة بما جرى ان يساهم فى توثيق ونقد وتحليل ما يعرفه.
