أُقيمَ منتدى «الصحافة السودانية في ظل النزاع واستقلاليتها المهنية والمالية» يوم الثلاثاء 22 يوليو الجاري. نظّمَ مركز فاكتس للصحافة المنتدى، وعَقدهُ بمكتبه في العاصمة الكينية نيروبي، ودعا إليه مجموعة من المؤسّسات الصحفية والأفراد المهتمّين بالصحافة، وهو ثاني منتدى ينظّمه المركز بعد منتدى «حرب السودان: كيف تأثَّر قطاع الثروة الحيوانية؟».
ضمّ المنتدى ثلاثة متحدّثين، هم: عارف الصاوي رئيس تحرير مجلة «أتَـر» من صالة المنتدى، وعثمان فضل الله رئيس تحرير مجلة «أفق جديد»، وآدم مهدي المدير التنفيذي لشبكة «دارفور24» من تطبيق Microsoft Teams، ومَحاورُ حديثهم حالُ الصحافة السودانية في زمن الحرب ومصادرُ مالها.
أدار الندوة حاتم الكناني، مدير تحرير مجلة «أتَـر»، واستهلّها بكلمةٍ عن أوضاع الصحافيّين السودانيّين، مشيراً إلى أنّهم وجدوا أنفسَهم بلا عمل ولا حماية في ظلّ الحرب، وأكَّد على ضرورة التفاكر حول المصاعب العديدة التي تواجه الصحافة السودانية. وأتاح الفرصة بعدها للمتحدّثين ليبدأوا النقاش في المَحاور المُقرّرة.
كيف نشأت هذه المنصّات؟ بدأ المتحدّثون سردهم انطلاقاً من تجاربهم والمحدّدات التي فرضتها نشأة مؤسّساتهم المختلفة. قال عارف الصاوي إنّ الفكرة خلف مجلة «أتَـر» بدأت قبل الحرب، لتكون مُحاولةً لمُعالجة مشكلات الصحافة التي نتجت عن ما فرضه نظام الإنقاذ من رقابة على وسائل الإعلام، وإيجاد سبل للعمل تحت نظام استبدادي: «لقد سبق مجلة «أتَـر» جهدٌ بحثيّ عن مشكلات الصحافة، وآخر تدريبي قام فيه المركز بتدريب مجموعة من الصحافيين عبر برنامج «زمالة»، الذي خرّج دفعتين قبل الحرب، ودفعتين أخريين بعد انطلاق «أتَـر» في أكتوبر 2023».
من جانبه، قال آدم مهدي إنّ منصّته رأت في الصحافة الإلكترونية حلاً انطلقت منه في أبريل 2016، ورغم اتجاهها للصحافة الإلكترونية كان لـ «دارفور24» مركزٌ في نيالا، ولم تصبح صحيفةَ منفىً إلا بعد الحرب. وقال آدم إنّهم رأوا أنّ الصحافة السودانية تركّز على الخرطوم بشدّة، وأنّ فهم السودان يحتاج إلى تغطية أكبر من ذلك، ما دفعهم لتوسيع نطاق عملهم والتركيز على دارفور.
بحسب عثمان فضل الله، اختلفت «أفق جديد» عن سابقتيها بانطلاقها كلياً بعد الحرب، ما فرض عليها العمل منذ مهدها بوصفها مجلة منفى. وقال عثمان إنّه، ومجموعة من الصحافيين، تساءلوا عن ما يمكنهم فعله في زمن الحرب، وأقاموا ورشةً وصلوا من خلالها إلى إنشاء منصّة مستقلّة، تركّز على «الصحافة التفسيرية» بدلاً عن «الصحافة الخبرية» في تغطية الأحداث بالسودان، ثمّ تواصلوا مع عدد من رجال الأعمال والزملاء لتوفير قدر من التمويل، الذي وصفه بأنّه ليس كافياً تماماً لكنه مكّنهم من مواصلة إصدار المجلة.
كيف يجب أن تتعامل الصحافة مع الحرب؟ تطرَّق المتحدّثون بعد ذلك إلى وضع الصحافة خلال الحرب والتحدّيات التي فرضتها عليهم. وأشاروا إلى مجموعة من التحدّيات من ضمنها حالة الاحتقان الاجتماعي التي أفرزتها الحرب، وصعوبة الفصل بين المواقف السياسية الشخصية والتغطية الصحفية، والمسائل المتعلّقة بالعمل من بُعد وحماية صحافيّي الداخل.
وفي ما يلي سُبل تجاوز هذه التحديات، قال عارف الصاوي إنّهم اعتمدوا في «أتَـر» على الحقائق دليلاً ومرتكَزاً للموقف التحريري، وإنّهم أعطوا «الخبر المحلّي» أولويةً في فهم ما يجري في السودان. وقال آدم مهدي إنّهم اتخذوا في «دارفور24» الرواية الخبرية المستندة إلى الوقائع مرجعاً، وتبنّوا منهجاً يرى به الصحافي وهو يروي الأخبار جميع أطراف الحرب من موقع مستقلّ، بصرف النظر عن موقفه الخاص منها، وأكدّ على ضرورة تغطية الأخبار من كلّ مكان رغم الصعوبات التي يفرضها الشتات. من جانبه، تحدّث عثمان فضل الله عن إيلائهم في «أفق جديد» اهتماماً بحماية الصحافيين الموجودين على الأرض وتوفير الموارد اللازمة لهم، وبضرورة الالتزام بخطٍّ تحريري مسؤول لا ينساق إلى ما يَنتشر من شائعات، أو أخبارٍ قد تثير الجمهور، لكنّها مضلّلة أو بعيدة عن الحال الذي يعيشه أغلب الناس على الأرض، وأكّد كذلك على أهمية التفكير والعمل على عودة الصحافة المطبوعة.
من أين يمكن أن توفّر الصحافة مالها؟ في هذا المحور ركّز المتحدّثون على قضايا سبقت الحرب واستمرّت بعدها، وهي القضايا المتعلّقة بالتمويل والاستقلالية. قال عارف الصاوي إنّ سؤال التمويل ليس جديداً على الصحافة السودانية، وإنّها في النهاية تظلّ مضطرّة إلى أحد خيارَيْن، إما مال القطاع الخاصّ أو التمويل الأجنبي. وقال الصاوي إنّ التمويل الأجنبي قد لا يفرض أجندةً مباشرةً على المؤسّسة الصحفية بالضرورة، لكنّه قد يغيّر اتجاهها ومهمّتها، بدفعه إياها نحو التركيز على الحملات السياسية أو الحقوقية. وفي ما يلي القطاع الخاصّ، فقد قال الصاوي إنّه ظلّ أسوأ من التمويل الأجنبي، وأكثرَ تدخّلاً في ما تغطّيه الصحف. وأكّد الصاوي على الحاجة إلى التحلّي الجماعي بقيَم المهنة وأوّلها الاستقلالية، ما يجعل جميع الصحافيّين في موقف تفاوضيّ أفضل مع المال المحلي والأجنبي. وذكر الصاوي مجموعةً من الحلول التي قد تُسهم في توفير المال، منها التعاون مع المؤسّسات لإنتاج تقارير خاصة، وتوفير تقارير مدفوعة، وأشار كذلك إلى أهمية التوسّع في توفير المال.
وقال آدم مهدي إنّ أغلب الصحف كانت تخدم الحزب الحاكم، أو المرتبطين به سياسياً أو اقتصادياً، وإنّ ذلك هو الحال في أغلب الدول خصوصاً في الشرق الأوسط. وقال إنّ الشراكة بين الصحافة ورأس المال تكاد تكون منعدمة، ويظهر ذلك في توجّه معظم رؤوس الأموال إلى الرياضة، وقال إنّ على الصحافيين إيجاد سبل لإقناع القطاع الخاص بأهمية دعم الصحافة. وفي ما يلي التمويل الأجنبي، قال إنّه دائماً محاطٌ باتهامات كالتخابر والعمالة، لكنّ التمويل الداخلي أسوأ منه.
أما عثمان فضل الله، فقال إنّ «المستثمر»، المموِّل للصحافة، انتظاراً لعائدٍ مالي، قد اختفى عند نشوب الحرب، وإنّ هنالك نوعين من المموِّلين الوطنيين للإعلام، أولهما المموِّل المصطفّ مع أحد طرفي الحرب، والثاني هو الراغب في رؤية إعلام يؤدّي دَوراً مختلفاً عن الذي يوجد في الساحة، ومقدرة الأوّل أكبر بكثير من الثاني. وقال فضل الله إنّهم بدأوا بوضع قائمة لأفرادٍ يوافقونهم في توجّهاتهم ومبادئهم، بعضهم رجال أعمال، ليوفروا لهم تمويلاً، وتمكّنوا في النهاية من الوصول إلى 25 شخصاً. ويرى عثمان أنّ على الصحافيين أن يجدوا طُرقاً مبتكرة لتمويل عملهم، وطرَحَ الإعلام المرئي والمسموع مثالاً رغم مصاعب انتشاره إن ركّز على المحتوى السياسي حصراً. وأضاف فضل الله أنّ الصحافة الآن تعاني من تهديد لوجودها إضافة إلى أزمة تمويلها.
ماذا قال الحضور؟ قدّم الحضور مجموعةً من المداخلات التي تطرّقت إلى محاور المنتدى المختلفة، منها مقترح بتبنّي منصّات التمويل الجماعي لحلّ معضلة المال في الصحافة، وفكرة المنصّات أنّها تجمع الدعم في شكل أسهم من جميع الناس، لكنّها تتطلب انتشاراً كمّياً كبيراً للمؤسسة الصحفية. وقدّم ضيفٌ آخر مقترحاً بالتفكير في سبل دمج المؤسّسات الصحفية بما يوسّع قدراتها ونطاق عملها. وتحدّث ضيفٌ آخر عن حفظ أرشيف الصحافة السودانية ودراسة التطوّرات التي ألمّت بها بعد الحرب. كذلك، نبّه عددٌ من الضيوف إلى ضرورة تبنّي مجموعة من الممارسات، منها كتابة السياسات التحريرية، وتوفير أجرٍ مُجزٍ للصحافيين وتدريبهم على نحو حَسَن، ومحاولة بناء مؤسسات إعلامية كبيرة.
