رأي

مع غادة في “ليتك تعلم”

فيما أرى 

عادل الباز 

(1)

«كيف يمكن للعشق أن يتمكَّن.. وأنَّى لصوت الريح أن يصبح نغمات ورنين.. وكيف للهمس أن يدوي بالأعماق وصوت العالم من حولي يتلاشى ويضحى هشيم».

غاصت “نور” في ماضيها لتستجمع شتات نفسها وتنثر أشجان عشقها في رواية بديعة، ذلك العشق الذي لم تعشه طويلاً وما نسيته إلاَّ قليلاً.

(2)

أهدت “غادة عبدالعزيز خالد” روايتها الأولى للمكتبة السُّودانية “ليتك تعلم”، التي صدرت الأسبوع الماضي عن “دار مدارك للنشر”، لتنضمَّ إلى قائمة الراويات السُّودانيات اللائي صعدن بجدارة بعد انقطاعٍ دام أكثر من جيل.

فمنذ أن أطلَّت في عالم الرواية السُّودانية النسويَّة “بثينة خضر مكي”، مضى أكثر من عقدين من الزمان، صعدت بعدهما ليلى أبو العلا “المترجمة – المئذنة”، ثم ليلى صلاح “الغابة السرية”، وإستيلا قايتانو “زهور ذابلة”، (لا زلتُ أعتبرها سودانيَّة)، ورُقيَّة ورَّاق “مناحة الصقيع”، وناهد محمد الحسن “المحاربات”، وغيرهن كُثُر (شآبيب الرحمة على قبر صاحبة ـ الفراغ العريض ـ ملكة الدار).. تصعد الآن “غادة عبدالعزيز” المنصَّة بجدارة لتحكي قصَّة عشقٍ لم تكتمل.

(3)

بعد أن استلَّت حكايتها من الماضي، انداحت بطلة “ليتك تعلم” تحكي… وتحكي.

بدا ماضي “نور” في الرواية كلعنة تطاردها بقسوة وأداة تشتغل كمعول هدم لكل حياتها، فطفولتها ظللها الماضي بالحرمان، وشبابها بالأسى وترك باقي عمرها نهباً للأحزان.

عندما تفتحت لتعيش حياتها كبنات جيلها، تحب وتعشق، وجدت لعنة الماضي لا تزال تطاردها، فأنهت لعبة عشقها الأول التي أحالتها لحطام امرأة. من مفارقات الرواية المدهشة، أن ذاك الماضي، ماضي أبيها، الذي تسبَّب في تلك الآلام لبطلة الرواية، ماضٍ مشرق لم يتلوَّث بخيانة. المُفارقة الثانية، أنَّ ذلك الماضي رغم أنه سبَّب لها تلك الآلام، إلاَّ أنه ظلَّ موضع احتفائها وفخرها. المُفارقة الثالثة، أنَّ حالة العشق التي عاشتها البطلة رفدتها بقُدرة هائلة على التسامُح حتى مع من ساهم في وضع حبل المشنقة على عنق أبيها، وتلك حالة نادرة. أيها العاشقون والعاشقات هل لكم طاقة للتسامُح كـ“نور”؟!

(4)

اختارت المؤلفة “غادة” قصة روايتها الأولى على لسان بطلتها “نور”، ولم تتداخل أصوات معها إلاَّ قليلاً، وهي أصوات شخصياتٍ اشتغلت لإضاءة جانب من الماضي مثل “الخال”، أو لتُسدي نصائح “الأب” أو لتبدد أوهام في حال “نعمة” (الصديقة).

ورغم احتفاء بطلة الرِّواية بأبيها، إلاَّ أنك تلحظ ذلك التأثير الطاغي للأم عليها، ولذا نكاد نفهم لماذا أهدت الكاتبة الرواية للأم ثلاث مرَّات.

(5)

أمسكت “نور” بزمام قصتها جيداً، فمنذ “رشفة البرتقال” الأولى بدأ التداعي التلقائي لتعرِّفنا “نور” على تاريخ حكايتها “فلاش باك”، إلى أن أنهت الرواية بـ“ليتك تعلم”، وهي آخر فصولها لترسم لنا ملامح امرأة كسر العاشق قلبها بسبب تاريخ علق برقبتها كحبلٍ من مسد أبد الدهر. نكتشف ذلك خلال السَّرد المأساوي لتفاصيل حياة كتبت المأساة ماضيها ومستقبلها.

(6)

العاشق والمعشوق “جمال” ظهر كظلٍ خافت في ثنايا الرواية، الصُدفة وحدها جمعته بـ“نور” في منزل “نعمة”، لتعلق به وتستهويها اللعبة “لعبة العشق” المفتوح على فضاءات البراءة والثراء والأحلام الوردية. ولكن سرعان ما كشفت أحداث الرواية المتلاحقة أنَّ “جمال” المعشوق كان جزءً من الذين نسجوا الحبل الذي التفَّ حول رقبة أبيها. “جمال” الذي يعرف حقيقة ودوره كمحامي الشيطان في إعدام أبيها، وبالتالي مأساة حياتها، “نور” لم تذهب بعيداً وانسحبت باكراً لعبة عشقها.

“جمال” على الرغم من الضعف البشري الذي انتابه وهو يدخل تلك اللعبة، إلاَّ أنه سرعان ما أدركته حالة من صحوٍ لا تدرك العُشاق، فآثر الخُروج من عالم “نور” شهيداً.. «لقد كنت جزءً لا يتجزأ وسبباً وراء الأحداث التي عايشتِها، كنتُ ضمن عود الثقاب الذي أشعله الزمان في نفسك فترك فيها حريقاً كبيراً.. أنا لا أستحقك يا نور رغم إدراكي لأحزانك وآلامك».

(7)

حاولت المؤلفة “غادة” خلق حالة تعاطف مع “نور” ضدَّ الرَّجُل الذي تمَّ تصويره أنه خان عشقها “جمال” وتركها للآلام والأحزان وواصل هو حياته كالمعتاد! في السياق، استدعت لنجدتها سراعاً أحلام مستغانمي: «أحبيه كما تحب امرأة وأنسيه كما ينسى الرجال». “نور” لا تستحق التعاطف و“جمال” لا يستحق الاحترام، على الرغم من حالة النُبل والشهامة التي انتابته أخيراً، أترُكُ للقراء تصحيح موقفي أو التضامُن معي في هذا الرأي.

(8)

“غادة عبدالعزيز” استخدمت تقنيات متنوِّعة في كتابة الرواية.. اختارت صوت راوٍ واحد هو “نور”، ليحكي القصة وشخصياتٍ خافتة لم تؤثر أو تشوش على صوت الرَّاوي، أتاحت لبطلتها أزماناً متداخلة وهي تعبر طفولتها إلى فضاءات عشقها، عمدت لتكنيك “الفلاش باك” في بداية الرواية، ولكنها غادرته سريعاً، ذلك لتقود القارئ بيُسر لتتبع أحداث الرواية، من المؤكد أن غادة وهي تصعد فوق عتبة روايتها الأولى “ليتك تعلم”، بحاجة لتجويد تجربتها في كتابة الرواية الطويلة، وإثراء شخصياتها وجعلها أكثر حضوراً وتأثيراً في أحداث الرواية، ثم هي بحاجة لترك تعاطُفها الأنثوي المجَّاني، إذ لا مجال في الرواية لتحيُّزات “جندريَّة” بلا مُبرِّرات كافية.

تمتلك “غادة” نفساً سردياً مميَّزاً وقدرةً على التقاط التفاصيل وبناء شخصيات متماسكة، إضافة لرسم “حدوتة” اتسمت ببعض الجرأة دون إسفاف. مبروك.. “ليتك تعلم” جديرة بالقراءة والاحتفاء.

———

# هذا المقال نُشر في كتاب تجديف على شواطىء مزهرة لكاتب المقال أعلاه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى