محكمة كوشيب: استنتاجات دقيقة

بقلم د. محمد عثمان عوض الله

في جلسة الأمس لمحكمة كوشيب، برزت ملامح منهج يتسم بالمراوغة والتناقض، إذ حاولت المحكمة أن تجمع بين لغة القانون والأهداف السياسية، فبدت وكأنها تقدم السم في الدسم: تقر بحقائق أساسية تصب في مصلحة الدولة، ثم تنقلب عليها في سردية تبرر الاتهام وتحاول اعادة تشكيل الوقائع.
أولا: إقرار بالتمرد وتوصيف دقيق لبدايات الصراع
أقرت المحكمة بوضوح أن من حمل السلاح ضد الدولة هم متمردون، وأنهم بادروا بالهجوم على مؤسساتها الرسمية، وتسببوا في تدمير منشآت حيوية وقتل الأبرياء. كما نسبت المحكمة هؤلاء إلى انتماءاتهم القبلية دون أن تذكر لهم أي قضية سياسية أو اقتصادية محددة، التمرد في سرديتها لم يكن تعبيرا عن مظلمة موضوعية، بل كان عملا ذا طبيعة قبلية محضة.
بهذا التوصيف، تكون المحكمة قد بدأت بتعريف الصراع في جذره الأول: دولة ذات سيادة تواجه جماعات مسلحة خارجة على القانون.
ثانيا: اعتراف صريح بشرعية رد الدولة
في نقطة مفصلية أخرى، اعترفت المحكمة بحق الحكومة و واجبها مواجهة التمرد حفاظا على سيادتها، و تحريرا لأرضها وأن الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة كانت وضع خطة أمنية واضحة لحسم الصراع واستعادة السيطرة على المناطق المحتلة.
هاتان النقطتان تدعمان الموقف الحكومي وتؤصلان لشرعية استخدام الحكومة للقوة من أجل إعادة الاستقرار وبسط هيبة الدولة.
ثالثا: الانحراف المنهجي: من القانون إلى الاتهام لكن المحكمة سرعان ما انحرفت عن هذا الإطار التأصيلي الذي وضعته بنفسها. فبعد أن أقرت بشرعية رد الدولة، حملت الحكومة مسؤولية الجرائم التي وقعت، استنادا إلى مجرد روايات كلها سماعية من شهود مجهولين لم تعرفهم المحكمة سوى بأرقام تسلسلية في قائمة المراجع. بهذا التحول، انتقلت المحكمة من إثبات مبدأ سيادة الدولة إلى نزع المشروعية عنها، في قفزة منهجية تفتقر إلى الاتساق الداخلي والموضوعية.
رابعا: التناقض في تفسير مهنية الجيش ومن المفارقات اللافتة أن المحكمة نفسها أشادت بمهنية الجيش السوداني، مؤكدة أنه (نظامي ومقيد بالقوانين التي تمنعه من خوض هذا النوع من الحروب). لكنها بدلا عن الاستفادة والبناء على هذه الاشادة، إلا أنها استخدمتها كأداة للإدانة، معتبرة أنها سبب و دليل على أن الحكومة استعانت بمليشيات بديلة لتجاوز تلك القوانين! أوردت هذا التفسير الاستنتاجي ولم لم تناقش هنا لا وجهة نظر الحكومة و لا اسبابها و لا ناقشه في اطاري موضوعي واقعي. هكذا تحول دليل المهنية والمصداقية إلى دليل اتهام. اي تحولت المهنية إلى حجة ضد من يمارسها.
خامسا: من سرد الحقائق إلى اثبات الاتهام بدلا من تحليل الإطار العام للعمليات العسكرية ضمن خطة الدولة، انغمست المحكمة في تفاصيل يومية عن المعارك، فذكرت أسماء من وزعوا السلاح والأموال، وأوردت أقوالا تذكر في اطار العمل الحربي كعبارة (أكسح أمسح). استخدمتها كدليل ادانة كأنها قيلت في مواجهة عمل سياسي، بعيدا عن الاطار السيادي الاول الذي ذكرته ذات المحكمة. تلك التفاصيل، وإن كثرت، جاءت على نحوٍ أقرب إلى رواية بوليسية عن عصابة إجرامية، لا عن جيش نظامي يقاتل تمردا مسلحا يهدد وحدة الدولة وأمنها وفق رواية المحكمة نقسها. ولكن يظل المبدأ مبدءا و الوسيلة و سيلة لكن المحكمة خلطت بين الاطاريين.
سادسا: تجاهل متعمد لوجهة النظر الحكومية لم تذكر المحكمة وجهة نظر الحكومة في النقاط التي اعتبرتها إدانة لها. ولم تستدع رواية الدولة أو وثائقها الرسمية. ولكنها عوضا عن ذلك، بنت حكمها على شهادات أحادية، عن شهود محهولون. في إخلال واضح بمبدأ التوازن الذي يقوم عليه أي تحقيق جنائي أو سياسي منصف.
سابعا: النقطة الاكثر أهمية و الأكثر دلالة أن المحكمة أشارت إلى أن الجنجويد الذين نفذوا الجرائم، ما يزالون حتى اليوم يرتكبون ذات الجرائم. والسؤال المهم، إن كان هؤلاء الجنجويد قد تحركوا بالأمس، وفق خطة الحكومة لإعادة بسط سيادة الدولة، فبأي خطة يتحركون الآن؟ومن هو الراعي والممول والمسلح والمخطط لهم اليوم؟ هذا السؤال وحده يهدم السردية التي حاولت المحكمة ترسيخها، ويكشف التناقض العميق في منطقها الداخلي. اي أنه اذا كانت ذات الجرائم مستمرة بعد زوال الحكومة التي اتهمت بالتخطيط لها، فكيف تكون تلك الحكومة هي مصدرها؟ مما يعني تفسير المحكمة الخاطئ للعلاقة السببية بين الدولة والجنجويد. ستظل الدولة دولة برجالها و بمؤسساتها المهنية و منضبطة بالقانون، و تظل المليشيا مليشيا تدان على افعالها و تتحمل مسؤوليتها.

Exit mobile version