رأي

ما وراء قرارات الرئيس كير: إعادة ترتيب المشهد السياسي أم بداية لتحول تاريخي؟ 

 

جوزيف منجوير مكواج

في خطوة أثارت اهتمام المراقبين وأحدثت تفاعلات واسعة داخل الأوساط السياسية، أصدر الرئيس سلفاكير ميارديت قرارات مفاجئة بإقالة عدد من كبار المسؤولين، شملت نائبي الرئيس جيمس واني إيقا وحسين عبد الباقي أكول، إضافة إلى مدير جهاز الأمن القومي أكيج تونق، وأمين عام الحركة الشعبية بتير لام بوث، ومبعوث جنوب السودان لدول الشرق الأوسط توت قلواك، ووزير الصحة يولاندا أويل، وحاكم ولاية شرق الاستوائية. في المقابل، جاءت تعيينات جديدة تُعيد رسم المشهد السياسي، حيث تم تعيين د. بنجامين بول ميل نائبًا لرئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية، وجوزيفين جوزيف لاقو خلفًا لحسين عبد الباقي، فيما تولى جيمس واني إيقا منصب الأمين العام للحركة الشعبية، بينما أسندت مهمة سفير جنوب السودان لدى الكويت إلى توت قلواك، وتمت ترقية النائب السابق لمدير جهاز الأمن القومي ليحل محل المدير المُقال أكيج تونق. هذه القرارات أثارت موجة من التساؤلات حول ما إذا كانت مجرد إعادة ترتيب داخل السلطة أم أنها تحمل في طياتها توجهات جديدة قد تُفضي إلى تحولات جوهرية في بنية النظام السياسي في البلاد.

 

التوقيت الذي جاءت فيه هذه التغييرات لا يقل أهمية عن القرارات نفسها، حيث جاءت بعد ان اجراء الرئيس تعديلات سياسية وأمنية حساسة، كان أبرزها إقالة الجنرال أكول كور، الذي كان يُعتبر أحد أقوى الشخصيات الأمنية في جنوب السودان، إلى جانب مستشار الشؤون الأمنية السابق توت قلواك. هذه الإقالات المتوالية تُشير إلى أن هناك عملية إعادة ضبط تجري داخل النظام، قد تكون بهدف تقوية مركز الرئيس وتقليص نفوذ بعض الأطراف، أو ربما تعكس تصدعًا داخليًا في التوازنات التي حكمت معادلة تقاسم السلطة خلال الفترة الماضية. في هذا السياق، لا يمكن إغفال أن بعض المقالين، خصوصًا من جناح المعارضة بقيادة رياك مشار، كانوا يشغلون مواقع حساسة ضمن اتفاق تقاسم السلطة، ما يفتح الباب أمام تكهنات حول ما إذا كان الرئيس كير يسعى إلى الحد من نفوذ المعارضة داخل الحكومة، أو على الأقل إعادة هيكلة هذه الشراكة وفق رؤية جديدة.

 

واحدة من المفارقات التي رافقت هذه التغييرات هي إعادة تعيين حسين عبد الباقي أكول، الذي فقد منصب نائب الرئيس، وزيرًا للزراعة. هذه الخطوة غير التقليدية أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت محاولة لاحتوائه سياسيًا، أو أنها تعكس تفاهمات غير مُعلنة تهدف إلى تجنب خلق انقسامات جديدة داخل النظام الحاكم. فبينما كان متوقعًا أن يتم إبعاده تمامًا من المشهد، جاءت إعادة تعيينه في منصب وزاري كإشارة إلى أن هذه التغييرات قد لا تكون مجرد عملية تصفية حسابات سياسية، بل ربما تأتي ضمن رؤية أوسع للحفاظ على توازنات معينة داخل الحكومة.

 

اللافت أيضًا هو ردود الفعل الشعبية تجاه بعض هذه الإقالات، حيث لاقى قرار إعفاء حاكم ولاية غرب الاستوائية ترحيبًا واسعًا من المواطنين، رغم أنه أثار بعض التحفظات داخل أوساط الحكومة، خاصة في ظل اعتراضات من الحركة الشعبية في المعارضة (IO). هذا الترحيب الشعبي يكشف عن مفارقة مثيرة، حيث يمكن لبعض القرارات، حتى وإن لم تكن محسوبة بدقة وفق معادلة تقاسم السلطة، أن تحظى بقبول جماهيري واسع إذا كانت تعكس مطالب ظلت قائمة لفترة طويلة. في المقابل، فإن بقاء بعض المناصب شاغرة، مثل وزارة الصحة وحاكم ولاية شرق الاستوائية، يفتح الباب أمام تساؤلات حول طبيعة التوازنات الجديدة التي يجري تشكيلها، وما إذا كان سيتم إشراك المعارضة فيها، أم أن هذه المواقع ستُملأ لاحقًا بطريقة تُعزز توجهات الرئيس نحو إحكام قبضته على السلطة.

 

التغيرات الداخلية تزامنت أيضًا مع تحركات خارجية مهمة، كان أبرزها زيارة الرئيس كير الأخيرة للإمارات، والتي سبقتها زيارة د. بول ميل إلى أبوظبي كمبعوث خاص، حيث سلم رسالة خطية إلى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والتقى بمستشاره الدبلوماسي أنور قرقاش. تعيين بول ميل نائبًا للرئيس بعد هذه التحركات يُثير تساؤلات حول ما إذا كان هذا التعيين مجرد تعديل إداري، أم أنه جزء من ترتيبات أعمق قد تمتد إلى تحولات محتملة داخل هرم السلطة في المستقبل. في ظل تصاعد التكهنات حول إمكانية حدوث تغيير في قيادة الدولة، فإن تعيين شخصية محورية ک بول ميل في هذا المنصب قد يكون إشارة إلى استعداد النظام لمرحلة جديدة قد تتطلب إدارة مختلفة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد.

 

هذه التغييرات تأتي أيضًا في وقت يرتبط فيه الحكومة بمحادثات مبادرة توميني هناك في نايروبي, مع المعارضة غير الموقعة على اتفاقية السلام، وهو مسار تفاوضي يُنظر إليه على أنه أحد آخر الفرص لتحقيق تفاهمات سياسية أوسع. التعديلات الأخيرة قد تُلقي بظلالها على هذه المحادثات، خاصة إذا ما اعتبرتها أطراف المعارضة مؤشرًا على اتجاه الحكومة نحو إعادة هيكلة السلطة وفق أسس جديدة قد تُقلص من فرص التوصل إلى توافقات مستقبلية. ردود الفعل من ممثلي المعارضة في نيروبي ستكون حاسمة في تحديد مدى تأثير هذه التعديلات على مستقبل العملية السياسية، وما إذا كانت ستُعتبر خطوة نحو الاستقرار، أم أنها قد تؤدي إلى تعقيد المشهد السياسي أكثر.

 

منذ إقالة الجنرال أكول كور، بدأت بعض التحليلات تشير إلى أن جنوب السودان قد يكون بصدد إعادة تشكيل بنيته السياسية بطريقة غير مسبوقة، وأن القرارات التي يتم اتخاذها اليوم قد تكون مقدمة لتحولات أعمق في تركيبة الحكم. تعيين بول ميل نائبًا للرئيس، والإقالات المتتالية في مواقع حساسة، تفتح الباب أمام سيناريوهات عديدة، من بينها إمكانية أن يكون هذا التحرك خطوة أولى نحو تغيير أوسع في القيادة، أو على الأقل إعادة توزيع الأدوار داخل النظام بما يُعزز توازنات جديدة تتجاوز الصيغة التقليدية التي حكمت البلاد خلال السنوات الماضية.

 

بغض النظر عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الإقالات والتعيينات، فإن تأثيرها على المشهد السياسي سيكون واضحًا خلال الفترة المقبلة. فمن شأن هذه التغييرات أن تُعيد تشكيل ملامح الحكومة، خاصة في ظل بقاء بعض المناصب شاغرة التي قد تصبح محل تفاوض بين الأطراف السياسية المختلفة. كما أن مدى قبول المعارضة والحلفاء السياسيين بهذه القرارات سيُحدد ما إذا كانت ستُسهم في تعزيز الاستقرار السياسي، أم أنها ستؤدي إلى تصاعد التوترات داخل النظام، خاصة إذا ما اعتُبرت تجاوزًا للاتفاقيات السياسية القائمة.

 

ما يحدث اليوم في جنوب السودان ليس مجرد تغييرات إدارية، بل هو جزء من تحركات استراتيجية قد تُعيد رسم شكل الحكم في البلاد، سواء عبر إعادة ترتيب داخلي لضمان استمرار السلطة القائمة، أو كجزء من عملية تحوّل سياسي أكثر شمولًا قد تؤدي إلى تغيير في معادلة القيادة. السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: هل هذه التعديلات محاولة لضبط المشهد السياسي ضمن النظام القائم، أم أنها بداية لمرحلة جديدة قد تُعيد تشكيل مستقبل الحكم في جنوب السودان؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى