للعطر افتضاح .. منبر جنيف.. تجريب المُجرَّب!

د. مزمل أبو القاسم

 

* خلال الحرب الحالية نشطت العديد من المبادرات الرامية إلى وقف الحرب وإنهائها، وتوزعت تلك المساعي على منبر جدة الذي رعته أمريكا والسعودية، ومنبر دول الجوار الذي اجترحته مصر، علاوةً على عدة مبادرات من الاتحاد الإفريقي والإيقاد، ومنبر المنامة الذي تم فيه تفاوض مباشر وسري بين الجيش ممثلاً في الفريق أول شمس الدين الكباشي، والدعم السريع ممثلاً في عبد الرحيم دقلو، وصولاً إلى مساعي الرئيس اليوغندي يوري موسفيني الذي حاول الجمع بين البرهان وقائد التمرد وفشل!

* لم تفلح كل تلك المبادرات في تحقيق أي اختراق يذكر لوقف الحرب، ما خلا منبر جدة الذي نجح في إبرام اتفاقين بين الجيش والمتمردين في 11 و21 مايو 2023، واستند الاتفاقان إلى نصوص حاكمة وملزمة من القانون الدولي الإنساني، واتفاقية جنيف 1949 وبروتوكولاتها الإضافية التي تتضمن أهم القواعد التي تحمي من لا يشاركون في القتال (المدنيون والطواقم الطبية وعمال الإغاثة) وتحد من وحشية الحرب.

* تمثلت أهم بنود الاتفاقين في التمييز بين المدنيين والمقاتلين وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، والامتناع عن أي هجوم من شأنه أن يتسبب في أضرار مدنية، واتخاذ الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين وعدم استخدامهم دروعاً بشرية.

* الثابت أن الولايات المتحدة الأمريكية نفضت يدها عن ذلك المنبر فجأة، وأدارت له ظهرها ولم تمارس أي ضغوط على متمردي الدعم السريع لإلزامهم بتنفيذ ما توافقوا عليه مع الجيش، عندما رفضوا إخلاء الأعيان المدنية (ووصفها معلوم للكافة)، بل صعدوا (عقب التوقيع) من هجماتهم على المدن والقرى والأعيان المدنية، وتمادوا في قتل وتجويع وتهجير المدنيين ونهب ممتلكاتهم (الفاشر وسنار والدندر والسوكي ومدن وقرى ولاية الجزيرة مثالاً).

* هناك عدة أسئلة تطرح نفسها بقوة في مواجهة الدعوة التي قدمتها الخارجية الأمريكية للجيش ومتمردي الدعم السريع، أولها لماذا أغلقت أمريكا منبر جدة، مع نجاحه في إحداث الاختراق التفاوضي الوحيد في الحرب الحالية؟

* ما الدافع لفتح منبر تفاوضي جديد بلاعبين جدد وأجندة جديدة؟

* كيف ولماذا تقصر الخارجية الأمريكية التفاوض على الجيش، بتجاوز غير مفهوم الدوافع للحكومة السودانية المعترف بها دولياً؟

* المفهوم والثابت أن أي التزامات تتمخض عن التفاوض الجديد في منبر جنيف سيقع غالب عبء تنفيذها على جهات حكومية لا صلة مباشرة لها بالجيش.. مثل إصدار التأشيرات لموظفي الإغاثة، وترتيبات استقبال العون الإنساني وتوزيع المساعدات، وحماية الفرق العاملة على إيصال تلك المساعدات للمحتاجين إليها، والترتيبات المتعلقة بتشغيل المستشفيات والمرافق الصحية لتلقيص معاناة المدنيين من احتلال متمردي الدعم السريع لغالبها مما أدى إلى خروجها عن نطاق الخدمة!

* لماذا تجاهلت أمريكا دعوة حركات الكفاح المسلح (القوات المشتركة) التي أصبحت طرفاً أساسياً في الحرب الحالية بدخولها ميادين القتال بجانب الجيش، سعياً منها لحماية منسوبيها والمناطق التي ينتمون إليها بعد أن نكل بها متمردو الدعم السريع وفعلوا بأهلها الأفاعيل؟

* غني عن القول أن الموقف المعلن للحكومة السودانية ينص بوضوح على التمسك بتنفيذ مخرجات جدة، وعدم السماح للمتمردين بالتنصل منها بأي نهج، وضرورة وضع خارطة طريق واضحة المعالم لأي تفاوض جديد، بتوضيح شروط وآليات وضمانات التنفيذ، كي لا يصيبها ما حاق بمخرجات منبر جدة، التي تحولت إلى هباء منثور ووريقات تتقاذفها الرياح.

* فوق ذلك يجب على الحكومة الأمريكية أن توضح سبب قصرها للمشاركة على الإمارات ومصر (بصفة مراقب).. على أي أساس ولماذا يقتصر أداء ذلك الدور على دولتين اثنتين فقط؟

* في المجمل تبدو الدعوة لفتح منبر تفاوضي جديد يُحاط بحديث مبهم ومعمم عن استناده إلى مخرجات منبر جدةً فخاً كبيراً للحكومة السودانية، المطالبة بالتمسك بشرعيتها وحقها القانوني في أن تفاوض بالإنابة عن جيشها وشعبها، ولا تكرر خطأ قصر التفاوض على وفد من الجيش، وأن تشترط أحد أمرين، أولهما أن يعود التفاوض إلى جدة لتضمن بناء القادم على السابق، أو توسيع منبر جنيف ليشمل وسطاء ومراقبين آخرين، مثل الصين وروسيا وقطر وتركيا لضمان توازن المنبر وحياده وقوة تأثيره، بدلاً من الزج بطرف متورط في العدوان على الشعب السوداني بصفة مراقب، وإشراك الاتحاد الإفريقي الذي شهدت ردهاته تآمراً مفضوحاً وانحيازاً كريهاً على السودان منذ بداية الحرب.

* سيضمن القبول بالدعوة الفضفاضة لوقف العدائيات استمرار سيطرة متمردي الدعم السريع على المدن والقرى وكل الأعيان المدنية التي احتلوها عقب توقيعهم على اتفاقي جدة، وسيمنحهم فرصةً لاحقة للتفاوض لتحقيق مكاسب سياسية لقوة مسلحة تمردت على الدولة السودانية ولم تستند إلى أي مشروع سياسي واضح المعالم، لأنها ليست حزباً سياسياً ولا تمثل تحالفاً مدنياً يمتلك شرعية السعي للوصول إلى السلطة.

* الدعوة إلى التفاوض بالنهج الذي طرحته أمريكا تستهدف شرعنة وجود الدعم السريع في الساحة السياسية السودانية وتمكينه من الاحتفاظ بالمواقع التي ينتشر فيها، وتخليص الإمارات من الورطة الكبيرة التي زجت بنفسها فيها، ومحاولة إثناء السودان عن تصعيد شكواه ضدها ومنع عرضها على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بوجود تقرير رسمي من لجنة خبراء الأمم المتحدة يؤكد تورط الإمارات في الحرب السودانية بتوريد السلاح والعتاد الحربي للمتمردين، ومنع السودان من تصعيد الشكاوى إلى منابر دولية أخرى، مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

* دعوة معيبة لمنبر مفخخ وغير متوازن، يجب على قيادة الدولة السودانية أن تنتبه لها جيداً، وأن لا تخضع للضغوط التي تستهدف إجبارها على القبول بتفاوض جديد يتم على أسس غير واضحة، وعليها أن تتعامل مع هذه الدعوة بوعي وحكمة وحزم، كي لا تتورط فيها بلا هدى، فتثير حفيظة شعبها عليها وتهز تماسك جيشها الرافض لأي تساهل أو تنازلات مع متمردين متوحشين، ارتكبوا كل موبقات الدنيا في حق السودان وجيشه وشعبه ومقدراته كافة.

* التفاوض وسيلة وليس غاية في حد ذاته، والمنبر المقترح في جنيف سيضم أمريكا والسعودية والإمارات (الرباعية ناقص بريطانيا)، وقد رأينا حصاد عواسة الرباعية في الشأن السوداني بالاتفاق الإطاري الذي مثّل وصفة كاملة الدسم للحرب، وبالتالي فإن تكرار الوصفة نفسها بنفس طباخيها سيمثل تجريباً للمجرب، ومن جرَّب المجرَّب حاقت به الندامة!!

Exit mobile version